النهضة و فوبيا الاستئصال

عبد الجليل عمائرة- 



لا تخرج حركة النهضة التونسية عن دائرة الإسلام السياسي ، لكنها لا تشبه الصحوة الماليزية و الجبهة السودانية و العدالة و التنمية التركية و غيرها من تجارب الإسلام السياسي حول العالم في تفاصيلها و تعقيداتها و ممارساتها السياسية في الحكم و خارجه ، رغم أنها تنهل من نفس المراجع و تعتبر إحداها امتدادا للأخرى إما تأثيرا أو تأثرا.
 
و قد تأثرت حركة النهضة حتى بتجربة الخميني في إيران ، و مرت بطور العمل السري و تورطت في أعمال عنف في خضم تأثرها بسياسة تجفيف المنابع ، التي انتهت بتهجير أبرز قياداتها قسرا ، لكنها لم تجرب الحكم إلا بعد ثورة 14/17 ، فكان من الطبيعي أن يتسم أداؤها بالارتجال و أن يكون الخوف طاغيا على مردودها السياسي و كأن تجربة الحكم لأول مرة بمثابة القفز في المجهول عندها.
 
و عوض أن تتحرر الحركة من الخوف بعد قرابة عقد من الزمن على خوضها غمار الحكم لأول مرة ، تعزز لديها هذا الشعور حتى استحال حالة مرضية أشبه ما يكون بالفوبيا ، فوبيا الاستئصال التي صارت تطارد الحركة و قيادييها و تكبل أداءها و تثير سخط بعض مناصريها أحيانا ، و كأن لعنة الماضي البغيض قد تركت فيها جرحا غائرا يصعب اندماله.
 
اكراهات السياسة و بداية تشكل فوبيا الاستئصال
 
لئن كان من الطبيعي أن تصاب حركة النهضة برهبة في بداية التصاقها مع الحكم تؤثر في أدائها ، فإنه من غير الطبيعي أن تستحيل هذه الرهبة رهابا مرضيا مزمنا بعد ذلك ، إذ كان من المتوقع أن تتحرر من رهبتها و خوفها و تمسك بزمام المبادرة مع تقدم الأمور ، لكن ما حدث كان صادما ، فقد تصدت الحركة لقانون العزل السياسي ، الذي أعده نخبة من الحقوقيين و كان يمكن أن يمنح الثورة الفتية حصانة تقيها كيد الأعداء المتربصين ، بدعوى الديمقراطية.
 
أي ديمقراطية هذه ، أن تتحالف مع جلاد الأمس و تقرر المصالحة و تفوض للشعب مسألة عزل الفاسدين عبر صناديق الانتخاب.
 
لعلها اكراهات السياسة و الأوراق التي تخلط تحت الطاولة و الركلات تحت الحزام هي التي جعلت من الخوف الذي يكبل أداء النهضة في الحكم يستحيل رهابا و حالة مرضية مستعصية ، لكن في علم النفس الإفراط في الخوف من الوقوع في شيئ ما يجعلك تقع فيه و أنت تحاول تجنب ذلك.
 
فهل تساعد النهضة خصومها على استئصالها من الحكم؟
 
الجلوس على الربوة لا يقي دوما من الطوفان ، فأن تضع النهضة حليفها في الواجهة و تحكم من خلف ستار ، قد يقيها بعض الضربات المباشرة ، لكنه لن يجنبها السقوط في كل مرة.
و هذا التخطيط الإستراتيجي القائم على الركوب جنبا إلى جنب مع الخصم في نفس المركب بدل خيار المواجهة و الصدام ، قد يدفع الغريم إلى إلقاء غريمه في عرض البحر ، و إن لم يتمكن من ذلك و لم تسعفه قواه ، يمكنه في لحظة طيش سياسي أو تهور أن يخرق المركب ليغرق كله بطم طميمه ، ليسارع كل للبحث بمفرده عن سبل النجاة.
 
و يبدو واضحا أن النهضة تسعى جاهدة لأن تتفادى الوقوف على المنصة ، و في لاوعيها تسيطر تجربة الإخوان المريرة في مصر و تجربتها الفاشلة مع الترويكا في بادئ الأمر ، التي جعلتها تكره الحكم و تخير إدارة الشأن من خلف الستار .
 
و في واقع الأمر ، نجد الحركة تكرر نفسها لكن بطريقة مختلفة ، فبعد أن وضعت المرزوقي في الواجهة في فترة الحكم الثلاثي المعروف اصطلاحا بالترويكا ، هاهي تبحث عن عراب جديد يأخذ على عاتقه تلقي اللكمات بدلا عنها مكتفية بتحريكه يمينا و شمالا من خلف الستار ، ستار البرلمان الذي تتحكم فيه بأغلبية نيابية نسبية ، و تعدل عن فكرة ترشيح زعيمها للرئاسة ، فموعد طلوعه لم يحن بعد ، ليظل البدر مستترا محجوبا بالغيوم.
 
لكن حركة النهضة فهمت الدرس جزئيا ، و لن ترشح عرابا من خندق الثورة كما فعلت سابقا ، بل بدأت تدرك جيدا أن الكل قد تخلى عن الثورة و تبرأ منها ، و أول المتخلين عنها المتبرئين منها هي الحركة نفسها ، لهذا ستحرص على تقديم عراب من الخندق المعادي للثورة ، و الذي بدأ يكسب نقاطا و يحرز تقدما لافتا ، كل هذا جعل الحركة تفكر في النجاة و تنأى بنفسها عن خطر الاستئصال الذي بدأ يقض مضجعها و يؤرق سباتها.
 
الحسابات السياسية و استراتيجية البقاء
 
تدرك النهضة جيدا أن الإنتخابات التشريعية هي هدفها الرئيس ، و أن قاعدتها الجماهيرية التي نجحت في تركيزها و احيائها بالعمل الدعوي إبان الثورة تمثل خزانها الذي لا ينضب و استراتيجيتها المثلى للبقاء ، و تعرف جيدا أن هذا الشعب متلون و قد ينقلب في أي لحظة ، فالتجمعي الذي ارتدى بعد الثورة قميصا و اعفى لحية طمعا و تملقا ، يمكنه ، في أي لحظة ، أن ينزع القميص و يحلق اللحية ، متى أحس بالخطر و أدرك أن رغيف الخبز تمكسه يد أخرى أطول من يد النهضة ، و لعل الرجل الذي رفع خبزة في وجه «بوليس بن علي» في خضم الحراك الثوري كان تعبيره أصدق من غيره و أقرب إلى الواقع في تونس.
 
النهضة تعي جيدا هذا كله ، لكن وعيها لن يجنبها الوقوع في مصيدة خصومها في الداخل و الخارج ، فخصمها لا يقل عنها مكرا و دهاء ، و قد يدفعها خوفها الشديد من الاستئصال و الذي استحال رهابا مرضيا بلغ درجة الفوبيا ، و هي تستحضر جيدا محاولة الانقلاب على نظام اردوغان ، الذي كان يمكن أن يؤدي سقوطه إلى سقوط آلي للنهضة ، و تعلم علم اليقين أن السعي لإسقاط الإسلام السياسي لا يزال قائما و الطامحون لذلك كثر و معروفون.
 
الخوف من الاستئصال لن يمنع حدوثه
 
رغم اختلاف تجارب الإسلام السياسي في العالم من حيث النجاعة في الحكم أو خارجه ، فإن الخيط الرفيع الرابط بين حركاته المتعددة ، يجعل مصيرها واحدا في نهاية المطاف و هو الاستئصال ، الذي يبقى نتيجة حتمية لا مفر منها ، و لا يمكن للخوف منه أو حتى رهابه أن يمنع حدوثه ، فهو بمثابة الكارثة التي قد تحدث في أي لحظة ، و حتى الاعتداد بسلاح الخصم كأن ينظر الغنوشي للإسلام الديمقراطي و يروج خطابا من قبيل أن الحركة هي الأكثر ديمقراطية في الساحة السياسية التونسية تصريحا بارتدائه جبة الديمقراطية و تخليه عن جلباب سيد قطب المهترئ ، يجعله يقف عاريا لا يستر عورته شيئ على الإطلاق ، فمن استعار كساء سيكون حتما مطالبا برده لصاحبه طال الزمان أو قصر.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.