محمد علي الصغير –
ما حدث مع الصحفي النّوري الصّل، رئيس تحرير جريدة الشروق التونسية من قبل الادارة لا يمكن وصفه الا بالعمل المنافي لاخلاقيات التعامل المهني.. فارسال أعوان شداد غلاظ لترهيب الزميل المشهود له بدماثة الأخلاق وزوجته وافتكاك السيارة الوظيفية التي كانت بحوزته بطريقة همجية يبين تماما نوعية الكائنات التي كان يتعامل معها النّوري الصّل.
ما سأسوقه عبر هذه الكلمات ليس من باب انصر أخاك ظالما أو مظلوما أو من قبيل الحَمِيَّة لأني مقتنع تماما بنوعية وطبيعة الشخص موضوع هذا المقال. النّوري الصّل من الناس القلائل الذين عرفتهم منذ أكثر من عقد ونصف، من أيام معهد الصحافة… وظلوا على طبيعتهم ولم تغرّهم المناصب أو المظاهر أو تغيّر أحوالهم… النّوري الصّل هو مثال للإنسان المجتهد الى درجة لا يمكن وصفها… النّوري الصّل ضحى بعائلته وبأبنائه الذين كانوا في أمس الحاجة اليه بسبب حبه وعشقه لمهنته أولا ولصحيفة الشروق ثانيا…
اتصلت به يوم أمس ليس للتعبير عن تضامني المطلق معه فحسب بل لألومه أشد اللوم لأنه لم يستمع يوما لنصائحي… لقد تنبأت بهذا اليوم لأن الأجواء التي يعمل فيها كانت مشحونة الى ابعد الحدود… هو كان قليل التذمّر لأنه يدرك أن صفته كرئيس تحرير تقتضي التسلح بعزيمة من حديد والاقتداء بأيوب في صبره على الأذى حتى من أقرب بعض الزملاء من حوله والذين يتلونون تلون الحرباء وينصبون له من الحيل لا مجال للحديث عنها… لقد نصحته أن لا يقبل هذا العرض الذي قُدم إليه لاني كنت ادرك انها هدية مسمومة… لأسباب قد تكون داخلية… أو قد تكون سياسية ربما… من يدري !
النوري لم يكن يعلم أن من زَيَّنَ له القبول بهذا المنصب الملعون هو من انقلب عليه اليوم وهو نفسه الذي أعطى الإذن بنهاية صلوحيته في ذلك المنصب… لم يكن يدرك أن المتمعشين والمتكالبين واللاعقين من كل المآدب ممن اختار التسبيح بحمد وريثة المرحوم صلاح الدين العامري مؤسس دار الأنوار سيطعنوه في الظهر… ربما لم يحصّن نفسه كما يجب، وهذا ما ألومه عليه أيضا، لأنه كان يرى في نفسه أرقى وأسمى من هذه السقطات وهذه الشطحات التي تعتبر رياضة مفضلة للأسف في العديد من مؤسساتنا الإعلامية…
لست هنا للدفاع عن المسار المهني للزميل النّوري الصّل.. فلقد استطاع بفضل مثابرته وعزيمته ونقائه و"نِيَّتِه" التي كانت سببا اليوم في هذه المهزلة، أن يتدرج في عمله الى ان وصل الى رتبة رئيس تحرير وهي درجة مستحقّة بالنظر الى ما قدمه طيلة زهاء عقدين من العمل في صحيفة الشروق.. ولكن وكما قال صديقنا العزيز والمشترك الدكتور أمين بن مسعود الذي "فرَّ بجلده" من هذه الأجواء، فهذه المهنة المسمومة -على عكس كل المهن التي يأكل منها أبناؤها- هي "تأكُل من أبنائها".
أصل الحكاية أو لنقل نهايتها، أن النّوري الصّل طلب من رئيسة المؤسسة عطلة لأنه أحس بإرهاق شديد وعجز عن مسايرة النسق الجنوني لصحيفة يومية في حجم الشّروق بالنظر الى طبيعة المهام الملقاة على عاتقه وجسامتها. ورغم أنه نادرا ما كان يتمتع بهذا الحق المكفول قانونا، الا أنه جُوبِه برفض مُتَعمَّد وقطعي من "السيدة المديرة" بحجّة تأثير غيابه على سير النسق الطبيعي للعمل والحال أن الصحيفة تعجّ برؤساء التحرير وبمسؤولي الأقسام المشهود لهم بالكفاءة والخبرة! وكأن قَدَرَ رؤساء التحرير العمل المتواصل حتى الموت وليس من حقهم التمتع براحة ظرفية تشحذ هممهم وتعطيهم دفعا جديدا لمواصلة هذا العمل اللامتناهي !!!
هذا التعَنّت الغريب وغير المبرّر من قبل السيدة المديرة واحساس زميلنا فعليّا بعدم قدرته على آداء واجبه على أحسن وجه وهو ما أعلمها به مباشرة، دفعه الى التوجه الى الطبيب الذي منحه عطلة مرضية. هذا الأمر لم يَرٌقْ لها ولمستشاريها من الذين يتربصون بالزميل "المغدور" وربما مثَّل لهم فرصة سانحة للانقضاض عليه وهرسلته بأسلوب يذكرنا بممارسات خلنا أنها ولّت منذ زمن. فما كان منها ومنهم الا أن لجؤوا للحل الذي يبرهن ضعفهم وقلة حيلتهم وحيادهم عن الحقّ. افتكاك السيارة الوظيفية بطريقة رعناء كان الحل الكفيل بالنسبة لهم في انهاء العلاقة مع الزميل الذي قضى أكثر من ثلثي حياته المهنية في صحيفة قدم لها حياته فاستخسر القائمون عليها عطلة يسترد فيها أنفاسه!!!
ما حدث للزميل النّوري الصّل الذي قال في تصريح لإحدى الإذاعات أن إدارة الشروق كافأت تضحياته بعملية "براكاج"، مظلمة بكل المقاييس وهي حادثة غير عادية ولا يجب أن تكون كذلك… هي سابقة في تاريخ الإعلام في تونس… إذ لم يسبق -على حد علمنا- أن تم التعسّف بهذه الطريقة الهمجيّة على أحد الزملاء من رؤساء التحرير في المؤسسات الإعلامية. هي سابقة خطيرة لأنها تؤكّد عدم جدّية البعض من وسائل الإعلام التي يتعامل مسؤولوها مع الصحفي معاملة فوقية والحال أنه رأس المال الوحيد لمؤسساتهم وصانع أمجادهم وأسمائهم التي كانت الى زمن غير بعيد نكرة.