“بينوكيو وبينوكيا”: تراجيديا كوميدية عن فلسفة الخطيئة

يسرى الشيخاوي-
 
حروب ودمار، دماء ودموع وعويل، صراخ وتوسل، هي جروح في روح الإنسانية، جروح تتسع رقعتها يوما بعد يوم حتى بات من الصعب رتقها، وعلى البسيطة تنزف الإنسانية في كل شبر، تحتضر ولكن خلاصها يضل مؤجلا لأن هناك من يحملها في قلبه وينفخ فيها من روحه، تنهض قليلا وتتعثر لأن نفسا واحد او انفاسا قليلة لا تكفي، فالإنسانية جمع وليست فردا.
 
ومنذ "واقعة التفاح"، ونزول آدم وحواء إلى الأرض ليكونا خليفة الرب فيها، والخلفاء يخضبونها بالدم والدموع من أجل "الخلود" الذي يعادل في ايامنا هذه النفوذ والسلطة، هي فلسفة الخطيئة التي وضع آدم وحواء لبنتها الاولى، تتجلى في مسرحية "بينوكيو وبينوكيا" من نص واخراج نادر بلعيد.
 
و"بينوكيو وبينوكيا" تراجيكوميديا مدعومة من وزارة الشؤون الثقافية تنطوي على بعد تعليمي، سينوغرافيا وليد البريني وتمثيل شهاب شبيل ورامي الشارني ورضا حمودي ومحمد علي الدريدي ومحمد فوزي البكوش وبلقاسم عزديني ومريم بن حسن واشراف التيمومي وأنس الهمامي.
 
واقعة التفاح في تجلّ جديد
 
والمسرحية التي عرضت بمسرح المبدعين الشبان بمدينة الثقافة، تروي قصّة عالم منعزل في مخبره لعقد كامل قضّاه في البحث عن حل يريح الإنسانية من الادران التي طالتها، تحاصره التساؤلات من كل صوب ويكاد رأسه ينفجر من فرط انسيابها، ليطل عليه "العجوز الجوال"، صعد إليه من باطن الأرض وأهداه قطعة خشب سحرية يصنع من نصفها لعبة تؤنس وحدته وتجنّبه "الهذيان".
 
واللعبة الخشبية التي ارتبطت بعالم القصص والخيال تحوّلت بمفعول السحر إلى كائن ناطق سمّاه "بينوكيو"، حزّ في نفس صانعه أن يخبره أنه لعبة وانطلقت سلسلة الخطيئة في التشكّل حينما كذب على انيسه وأخبره انه إنسان، ولما علم ليراضيه اقترح "العجوز الجوّال" أن يصنع  لعبة أخرى تكون أنثى تؤنس "بينوكيو" وكان ذلك وسمّها "بينوكيا".
 
وأنت حينما تشاهد تسلسل أحداث المسرحية في بدايتها ستعتقد لوهلة أنّها ستعيد نفس أحداث قصّة "بينوكيو" الخيالية، ذلك الفتى المصنوع من الخشب الذي يطول أنفه كلّما كذب، ولكن مع تقدّم السرد في المسرحية، تتبيّن ان الأمر يتعلّق بتصور جديد للخطيئة التي انطلقت مع "واقعة التفّاح".
 
"بينوكيا" الدمية التي كان من المفترض ان تؤنس وحدة "بينوكيو" الذي ظنّ أن لا مثيل له، استبدّت بها الأسئلة بشأن كرة مشعّة معلّقة في سقف المخبر، كرة حذّرها صانعها من لمسها مغبّة ان ينالهم خطر الفيروسات التي غزت الإنسانية، ولكن "بينوكيا" لم تصغ إلى قوله وحرّكت الكرة من موضعها وتجمّد صانعها، وكم تبدو احداث المسرحية في هذا المستوى شبيهة بقصّة آدم وحواء والتفاحة.
 
نص مسرحي ثري 
 
وانت تشاهد المسرحية يشدّك النص المسرحي الذي لا يخلو من الحبكة المصاغة بشكل بسيط وتناغم يجعلك لا تمل الانتقال بين الشخوص والأزمنة والأمكنة التي تراوحت بين المخبر والفضاء الخارجي.
 
وكانت نقطة الانطلاق بوصول العالم إلى ذروة الانشغال بقضايا الإنسانية والبحث عن حل يريحها من كل الفيروسات، ثم تصاعد نسق الاحداث لتصل إلى نقطة التأزم  المتمثلة في زحزحة الكرة المضيئة من مكانها، وتتواتر بعدها الاحداث ليكتشف " بينوكيو" وبينوكيا" أمرا غير معلوم من قبل وهو انّ رماد احدهما هو الذي يحمل الشفاء لصانعهما.
 
ويحتوي النص المسرحي على بعض التلميحات لما قد يحدث في سيرورة الأحداث، إلى جانب بعض التعقيدات التي قد تعرقل هذه السيرورة على غرار الشروط التي وضعتها ملكات الماء والنار والهواء أمام اللعبتين الخشبيتين لكي يتمكّنا من المرور بسلام إلى جبل الصدأ حيث يجدان الشفاء لصانعهما ويكون الحل في النهاية بتحوّل "بينوكيو" إلى رماد.
 
وفي علاقة بالشخصيات، فقد تظافر في مسرحية "بينوكيو وبينوكيا" البعد المادي والبعد الاجتماعي والبعد النفسي، وهو ما جسّده الممثلون في شخصيات العالم وبينوكا وبينوكيا والعجوز الجوال وملكات النار والماء والهواء وما رافق هذا التجسيد من انفعالات وعواطف وتنزيل للقيم والمعايير الاخلاقية.
 
والمسرحية لا تخلو من مغزى عام يتمثّل في قيم التضحية وتجنّب الكذب والحذر من سطوة الأفكار التي قد تؤدّي بنا إلى ما لا يحمد عقباه، وكانت اللغة فيها بسيطة وسلسة تلامس الكبار والصغار على حدّ سواء.
 
عن جمالية السينوغرافيا والإخراج 
 
وفي مسرحية "بينوكيو وبينوكيا" تظافرت السينوغرافيا والرؤية الاخراجية ليكون العرض لافتا ويشدّ إليه الحضور في قاعة المبدعين الشبّان، وقد أسهمت السينوغرافيا والإخراج في إقحام المتفرّد في ثنايا النص المسرحي من خلال الإضاءة وحركات الممثلين وملابسهم.
 
وفي التراجيكوميديا نجح المخرج نادر بلعيد في تأويل النص المسرحي بطريقة فنية تظافرت فيها الإضاءة والمؤثرات الصوتية والموسيقية والرقصات التي تبعث بعض خطواتها على الضحك الذي استشرى في صفوف المتفرجين كبارا وصغارا.
 
والسينوغرافيا في هذا العرض أثرت الإخراج من خلال فسح مجال لتجسيد المتخيّل في النص المسرحي وسعى إلى دفع المتفرّج إلى الاستجابة لفكرة العرض المسرحي.
 
والمسرحية التي تحمل في طياتها بعدا تعليميا، ساقت بعض المعلومات عن ماهية الماء والهواء والنار، وذلك في رحلة البحث عن بلسم يخلّص صانع بينوكيو وبينوكيا من حالة التجمد، والرحلة لم تقتصر على سرد النص المسرحي بل كانت مرفوقة بالإضاءة والمؤثرات الصوتية التي تحيل إلى صوت الماء والريح والنار وتفاعل اجساد الشخصيات معها.
 
والإضاءة في هذا العمل المسرحي أضفت نوعا من الجاذبية على المشاهد وكانت مفتاحا للانتقال من مشهد إلى آخر وأسهمت في خلق الجو الدرامي والكوميدي في ذات الآن إلى جانب الإيهام بالطبيعة.
 
و"بينوكيو وبينوكيا" خلقت حالة مسرحية أقحمت المتفرج في العمل المسرحي، وجعلته يتفاعل مع المنحى الدرامي الذي تجلّى في كذب الصانع على بينوكيا ومخالفة "بينوكيا" لأمر صانعها وتحوّله إلى إنسان متجمد واما المنحى الكوميدي فتجلّى في حركات بينوكيو وبينوكيا ورقصاتهما وطريقة حديثهما. 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.