20
محمّد علي الصغير-
بعد جولة من العروض في العديد من جهات الجمهورية، حطّت يوم أمس، مسرحية "ليس بعد" لانتصار العيساوي الرحال بفضاء مسرح كورتينا بالقلعة الكبرى.
السواد هو اللون الطاغي على الفضاء، ديكور بسيط للغاية او لنقل بكل وضوح انه لا وجود لديكور، بطلا هذه المسرحية، انتصار العيساوي وحمودة بن حسين ، حولا هذا الفراغ الموغل في الوحشة والسواد الى حلبة صراع بين قوى متضادة ومتصارعة.
التعابير الركحية والحركات التي ادتها الشخصيتان كانت متماهية ايما تماه مع النص الموغل احيانا في البساطة.. بساطة عكست بما لا يدع مجالا للشك ان هذا العمل سيستهوي الجمهور الحاضر بكثافة في فضاء مسرح كورتينا لصاحبه المسرحي محمد علي سعيد.
الفساد والارهاب وجهان لعملة واحدة
لعل ما يميز المسرح عن بقية الفنون هو قدرته الفائقة والفعالة على معالجة الظواهر الاجتماعية السائدة بأسلوب نقدي ساخر، ومسرحية "ليس بعد" استطاعت أن تعري العديد من القضايا التي شغلت الرأي العام التونسي والعربي في زمن الثورات التي عاشت على وقعها الشعوب العربية.
الإرهاب والفساد والرشوة والمحسوبية والثراء غير المشروع، كلها مواضيع تطرق لها بطلا هذا العمل الذان تقمصا دور عوني أمن مهمتهما الرئيسية القضاء على الارهاب ومكافحة الفساد والجريمة المنظمة.
منذ البداية نجح البطلان في شد انتباه الحضور من خلال التماهي الى حد كبير مع الادوار التي انيطت بعهدتيهما خصوصا في بداية المسرحية التي اتسمت بالصمت والهدوء.. صمت قطعه حركات الممثلة انتصار العيساوي التي تجسد الخوف والفزع.. حركات تبحث فيها الشخصية عن الحرية والانعتاق وتكسير القيود التي ما فتئ البطل يرسمها على الجدار معتمدا على تحركات جسد البطلة التي تحاول جاهدة التخلص من هذه الأغلال الرمزية في تحدّ واضح لوضع حد لسيطرته المطلقة والتمرد على الوصاية التي يريد فرضها على فكرها وجسدها، والاضواء الصفراء الخافتة والثابتة زادت في قتامة المشهد.
هذا المشهد الافتتاحي سهل على المشاهدين الدخول في صلب موضوع المسرحية الرئيسي الذي يعالج كما اسلفنا الذكر قضايا مفصلية تهم أمن بلادنا ومستقبلها. بطلا هذا العمل الحائز مؤخرا على جائزتين في كل من البحرين والاردن، وفقا الى حد كبير في ترجمة واقعنا المعيش الى لوحات فنية تفاعل معها الجمهور كثيرا.
نموت نموت ويحيا الوطن
يمثل هذا الشعار كلمة مفتاحا في هذه المسرحية التي جسدت في معظم فصولها الاحساس الراقي بحب الوطن والاستعداد اللامتناهي للذود عنه والاستشهاد في سبيله. "نموت نموت ويحيا الوطن" هو الشعار الذي يرفعه كل ابناء هذا الوطن من الاخيار والوطنيين في وجه الاعداء من الارهابيين وتجار الموت والفاسدين وغيرهم ممن يزرع الالم والحزن في دروب التونسيين.
هذا الشعار يتبناه عونا الامن، بطلا "ليس بعد" الذان استطاعا الولوج الى مكامن الارهابيين في الجبال والقيام بعملية تفجيرية ضد امير الارهابيين. لكن بأي ثمن؟ فقد فقد البطلان البصر واصبحا يتحسسان الاماكن والاشياء بالتعود. لكن التعود على الوضع السائد يصبح في معظم الأحيان تطبيعا مع السلبية والخنوع.من أجل ذلك يجب التمرد على هذا الوضع ورفض لعب دور الضحية.
هي رسالة واضحة الى ضرورة مواجهة الارهاب والتصدي له وليس الهروب منه وانتظار ما ستؤول اليه الأمور. مهاجمة الارهاب ودحره في مخبئه هو الوسيلة المثلى للتخلص منه نهائيا..كذلك الشان مع الفساد والمفسدين الذين يمثلون الوجه الآخر من العملة ذاتها.. هي حرب ثنائية الابعاد على ظاهرتين تغولتا واستفحل خطرهما بتغول بعض الاحزاب الفاعلين السياسيين في بلادنا…
السياسيون في مرمى النقد
حِرْصُ الممثليْن على استعمال التلميح احيانا والتصريح احيانا اخرى، خصوصا عند التطرق الى عناوين الازمات السياسية زاد في تفاعل الجمهور الذي صفق طويلا لبعض المشاهد التي ترجمت جرأة وتناول طريف للموضوع. استعمال عبارات مثل "مونبليزير" لم يكن يحتاج الكثير من النباهة بالنسبة للجمهور ليفهم ان الامر يتعلق بحركة النهضة وكذلك كلمة "حصانة" التي يلوح بها كل نائب يثبت تورطه في قضية فساد او رشوة او محسوبية او استعمال نفوذ بغير وجه حق او نحو ذلك.
"ليس بعد" وجهت سهام النقد اللاذع والاتهام المباشر الى اطراف سياسية دون غيرها في الضلوع بصفة كبيرة في تردي الاوضاع ونشر الفوضى ومحاولة تغيير النمط المجتمعي. مصطلحات المعجم الديني الذي وردت في هذا العمل مثل الجنة والنار والموت والخلود والايمان والكفر والحق والباطل… جاءت في شكل ثنائيات تعكس حرص البعض ممن يعتبرون انفسهم اوصياء على الدين على السيطرة على عقول الناس والتاثير عليهم والعمل على ادلجتهم وتحويلهم الى قنابل موقوتة قابلة للانفجار في وجه كل المعادين لهذه القوى الظلامية…
مسرحية ومسارح
لئن اعتمد هذا العمل الذي دام زهاء السبعين دقيقة على الدراما السوداء الا أن براعة الممثلين وحبكة النص تجعلنا احيانا امام عمل مسرحي تتقاطع فيه كل انواع المسرح فجرأة الطرح والقضايا التي تم تناولها تجعل من "ليس بعد" جزءا لا يتجزء من المسرح التجريبي خصوصا عند تناول القضايا السياسية والفكرية والدينية تحديدا.
كما ان روح الدعابة التي يتحلى بها حمودة بن حسين بطل هذه المسرحية لم تمنع الجمهور من الاستمتاع ببعض المقاطع الطريفة والكوميدية الساخرة فبدا العمل وكأنه مسرحية كوميدية خالصة. هذا اضافة الى العديد من الحركات الجسدية التي تاتي في شكل نوبات عصبية تجتاح بطلي هذه المسرحية ليكتشف المشاهد في اخر العمل ان المشهد الرئيسي تم تصويره في مستشفي للمجانين… فالبطلان بصدد انتظار "الزريقة" التي ستعيدهما الى عالم الصمت والهدوء بعيدا عن عالم الخوف والرعب الذي حملا فيه الجمهور طوال كامل العمل…
كما ان اعتماد بطلي المسرحية احيانا على بعض الرموز والمصطلحات مثل "القدر" و"الجنة" و"الموت" او التمرد الواضح على البناء التقليدي للمسرحية من خلال تواتر العقد مع ندرة الحلول او التعمد الصريح اللعب بالالفاظ والكلمات يجعلنا امام نوع من انواع المسرح العبثي حيث تختلط التراجيديا بالكوميديا وتجتمع التناقضات والمتناقضات ويسود الصمت احيانا ليطول فاسحا للمشاهد المجال لاعتمال مخيلته وتفكيره لمشاركة الابطال همومهم ومشاغلهم.
"ليس بعد"، على بساطتها كعمل مسرحي خال في ظاهره من التعقيدات الركحية والضوئية وغيرها، الا أنها استطاعت بفضل اهمية المواضيع التي تم التطرق لها وطرافة معالجتها وبراعة الآداء، أن تترك لدى المشاهد وقعا كبيرا وان تجعله في صراع مع العديد من التساؤلات حول واقع ما آلت اليه الامور ومصير هذا الوطن في ظل كل هذه المحاذير والمخاطر والقيود التي تتربص به. ولعل ابرز تساؤل مشروع لنا طرحه اليوم : نموت نموت ويحيا الوطن، نعم بالتأكيد… ولكن أمَا آن لهذا الليل أن ينجلي أم أنه "ليس بعد" ؟