“جرائم زوجية” في القلعة الكبرى: عندما تتحول الضحية الى جلاّد

 محمد علي الصغير –

بعيدا عن صخب المدينة وضوضاء الحياة اليومية المملة والرتيبة، حمل الفنان المبدع محمد علي سعيد جمهوره الى رحلة طويلة في البحث عن الحب والوئام والتصافي والهدوء في حياة زوجين يعصف بهما الحذر والخوف وانعدام الثقة. مسرحية "جرائم زوجية" التي تم عرضها يوم أمس على خشبة مسرح "كورتينا" الواقع في مكان هادئ على أطراف مدينة القلعة الكبرى تبحث في واقع رجل وإمرأة انطلقا في رحلة اكتشاف وتعارف وتصادم بعد زواج دام أكثر من 15 سنة.

لم ينتظر توفيق البحري ومريم القبودي، بطلا هذا العمل المستوحى من نص للكاتب الفرنسي البلجيكي ايريك امانيال شميث طويلا، ليفصحا للحاضرين عن ماهية الصراع الذي حول حياتهما الى جحيم من التساؤلات والاستفسارات: من منهما يحب الآخر؟ من ذا الذي بدأ بالتبرّم من الآخر؟ من تراه كره الآخر بعد كل هذه المدة؟ من سئم من الحياة مع الاخر؟ من بادر بالتخلص من الآخر؟ من هو ومن هي؟ من هذا الآخر الذي ينظر كلاهما اليه باشمئزاز واحتقار؟ كلها اسئلة نزلت على الجمهور الغفير الذي واكب هذا العرض الأول نزول الصاعقة… عدد كبير منهم جاء في شكل ازواج وانبرى بدوره يتساءل هذه الاسئلة الحارقة… الخوف كل الخوف ان تصيب لعنة هذه القصة الغامضة احدهم…

نص هذه المسرحية على بساطته كان حمالا لمعاني ودلالات كثيرة. البساطة كانت مقصودة وهو ما أكده مخرج هذا العمل محمد علي سعيد الذي ابدى رغبة جامحة في انجاز اعمال بعيدة عن الصخب والتهريج. صاحب مسرحية "نهير خريف" التي حصدت عددا هاما من الجوائز في مهرجانات عربي عديدة، لم يقطع حبل الود بينه وبين الفنان توفيق البحري الذي رافقه في هذا العمل المتميز. هذا الحب والتصافي جاء ليتوج مرة أخرى بهذا العمل الجديد الذي اتقن فيه الثنائي توفيق البحري والفنانة الشابة مريم القبودي الدور وكان حضورهما المسرحي لافتا الى أبعد الحدود، وصفق له الجمهور طويلا.

المشاهد استمتع بحوار بين زوجين وما هما بزوجين… بخصام بين عدوين وما هما بعدوين… بين حبيبين وما هما بحبيبين… بين مجرمين… وكلاهما مجرم في نهاية المطاف… هو الرجل، كاتب الروايات البوليسية المنغمس في حياته الوهمية مع المجرمين والسفاحين والقتلة، المنزو، المعتزل للحب، الهاجر لزوجته ولحياته معها… هي، الامرأة الشابة الجميلة المكتنزة انوثة والعاشقة لذاتها… تتملكها رغبات وشهوات جامحة وتخشى انصراف ربيع حياتها ولا تقدر على التخيل ولو للحظة واحدة ان تذبل زهرة شبابها وتصبح غير مرغوب فيها…

هو، يخشى ان تتحول زوجته الى احدى بطلاته في الخيال اللواتي تعشن حياة المجون واللهو والتصابي… وهي يخامرها الشك ويصور لها خيالها المريض انه سيهجرها في اي لحظة… هي متأكدة انه يخونها مع أخريات… لكن حبها له وعشقها لذاته وهوسها به اعموا بصيرتها ودفعوها الى ارتكاب المحظور… هي لا تستوعب فكرة هجرها له… وهو يستكثر على نفسه هذا الجمال ويخشى ان يفتنه هذا الحب الجارف ويبعده عن عالمه الخيالي… هو الضحية… وهي الجلاد… لا… بل هو الجلاد وهي الضحية… لا أحد يستطيع الجزم بذلك… فالحكاية انتهت من حيث بدأت… وربما تبدأ من جديد من حيث انتهت…

لحظات الصمت تطول وتقصر احيانا، الهدوء يلف المكان ولا يقطعه الا وشوشات بعض الحاضرين الذي تفاعلوا بشدة مع هذه القصة ومع الآداء الجيد للادوار واصوات الموسيقى التي تسمح للبطل الهروب من الواقع للحظات… ديكور بسيط للغاية بساطة القصة… البساطة تصنع الجمال… وجمال الاداء أضاء الركح الذي غلبت عليه الظلمة والسواد… كيف لا وحياة هذين الزوجين انتهت من حيث بدأت… لا ندري حقا هل هو الذي فقد الذاكرة بعد ان تقمصت هي دور احدى بطلاته وارتكبت في حقه جريمة من وحي خياله او انه تصنع هذا الوهم رغم اقراره بذلك ليختبر قدرته ومهارته على حبك القصص الخيالية.

"جرائم زوجية" من انتاج مسرح كورتينا لشركة رؤى للانتاج الفني التي يديرها المخرج محمد علي سعيد هي ترجمة لحالة من الانفصام التي نعيشها كل يوم… هي تعبير عن لحظات الهدوء التي تعترينا احيانا… هي تلك الوساوس التي تعشش في مخيلاتنا وتهمس لنا همس الشياطين لارتكاب المحظور…

"جرائم زوجية" تترجم كذلك حالة السقوط التي نؤول اليها احيانا ليس كما سقط البطل من على السلم… بل سقوط روحي وقيمي وأخلاقي… البطل سقط وقام… ولكنه ظلَّ مدركا لواقعه ولحياته… ولكن من يدري… قد يسقط أحدنا ويفقد الذاكرة الى الأبد… 

الجذاذة الفنية:

الانتاج: مسرح كورتينا لشركة رؤى للانتاج الفني

نص: ايريك امانويل شميت

دراماتورجيا: معز حمزة

إخراج: محمد علي سعيد

تمثيل: توفيق البحري ومريم القبودي

موضب انارة: أمين الشورابي

موضب موسيقى: رؤوف المثلوثي

موضب ركح: وداد العلمي

ملابس: هند عبيد

لوحات زيتية: الفنان رفيق بوسنينة

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.