حاورته أمل الصامت –
بعدما تطرّق الحوار مع القيادي في حركة النهضة وعضو مجلس شوراها عبد الحميد الجلاصي في جزئه الأول إلى القضايا السياسية العامة في البلاد وما عُرف بقضية "التنظيم السري لحركة النهضة"، يأتي الجزء الثاني من الحوار في شكل محاكاة لحقيقة الخلافات صلب حركة النهضة وبعض كواليسها الداخلية.
حقائق أون لاين حاولت النّبش أيضا في طموحات الجلاصي السياسية والحزبية، علاوة على الاقتراب من عالمه ككاتب في رصيده 4 إصدارات إلى حدّ اللحظة يعتبرها إنصافا لمن ظلموا في عهد الاستبداد وتحية شكر لهم لأنهم لم يتبعوا سياسة التشفي والانتقام حتى عندما حصلوا على الفرصة لذلك.
وفي كل هذا ننقل إليكم التالي:
لو نتحدث على الشّأن الداخلي لحركة النهضة وما طرأ عليها من تغييرات سواء في التنظيم أو في التوجهات بعد مؤتمرها الأخير، قيل إنه كان هناك رافضين لبعض هذه الخيارات وانت من بينهم، فكيف تستطيعون إدارة هذا الخلافات داخل الحزب دون تصديرها إلى العلن؟
حركة النهضة اليوم هي أعرق حزب في البلاد من حيث التاريخ، وحيث التجربة هي التي كانت لها التجربة السياسية الأوسع، باعتبار أننا مررنا بالمرحلة السرية ومراحل تعايش مع الحكم وفترات السجن وفترة الاستئصال ومرحلة المواجهة المدنية وتجربة المهجر ثم تجربة قيادة الحكم فالمشاركة فيه… كل هذه التجارب تترك مجموعة من الدروس كالوشم في البدن.
الميزة الكبرى في حركة النهضة أننا حركة مرنة، وكنا مفتوحين منذ بداياتنا على مدارس شتى في الفكر ومنهجية العمل، وكانت لدينا قدرة كبيرة على التأقلم والتكيف مع كل الأوضاع، وبعد 2011 تجد الحركة نفسها في وضع مختلف تماما عما كان عليه الأمر من قبل، كنا ندير مخاطر وأصبحنا ندير فرصا، قبل الثورة لم يكن هناك معارضة بل مقاومة.
كان مطلوبا منا في حركة النهضة بعد الثورة مساهمتنا في بناء دولة ديمقراطية اجتماعية وفي بناء المجتمع، في حين كنا في حاجة إلى إعادة بناء الآلات التي تساهم في ذلك والمتمثلة في التنظيم الداخلي وإعادة بناء أفكار الحركة وبرامجها ومناهج العمل الخاصة بها وطريقة إبداء ردود الأفعال خاصة وأننا كنا أحيانا نعطي انطباعا وكأننا مجتمع موازي أو في صدام مع السلطة.. الآن حركة النهضة في فترة هذا المخاض وهذا الانتقال، ويجب أن أنبه شخصيا أنه ليس من السهل التخلص من ترسبات ثقافة السرية التي دامت 40 سنة لنكتشف ثقافة التنافس والطموح.
لكن هناك حتى حديث عن استبعاد ما يسمى بصقور حركة النهضة والابقاء على الحمائم خلال المؤتمر العاشر، من أجل التمكن من إدارة المرحلة دون صعوبات؟
لا أتصور أن القضية خلال المؤتمر العاشر كانت قضية صقور وحمائم، لأن محاور النقاش في حركة النهضة كثيرة، إذ كان هناك نقاش حول المرجعية الدينية بفهم وتأويل تجديدي أو محافظ، ولكن للحركة أيضا إشكال في ديمقراطيتها الداخلية التي يلخصها شعار جميل "هل نحن حركة لها رئيس، أم هناك رئيس له حركة؟" وهذا موجود في كل الحركات المبنية على نوع من الزعامة الكاريزماتية.. هذا هو الاشكال.
بالتالي في حركة النهضة لنا تباينات في 4 محاور، لنا تباين غير ظاهر بالقدر الكافي حول التموقع الاجتماعي لحركة النهضة، من تمثل وعمن تدافع إذ لا تستطيع في الوضع الديمقراطي الدفاع عن الجميع وكل حزب يجب أن يختار تموقعا معينا ويدافع فيه عن ناخبيه ويتعايش مع الآخرين.
ثانيا ما هو التموضع الثقافي لحركة النهضة في علاقة بالمرجعية الاسلامية، نحن حركة محافظة أم نحن حركة اسلامية.
والمحور الثالث هو كيف ندير السياسة، متفقين جميعا على أنه يجب إدارتها بالتوافق والتشارك لكن ما هو البرنامج، وهنا يظهر اختلافنا بعد المؤتمر.. بعد انتخابات 2014 لم يكن لنا خلاف حول التعامل مع نداء تونس أو السيد رئيس الجمهورية لكن بأي طريقة.
شخصيا وعدد آخر من الأصدقاء في الحركة نعتبر أن هذه العلاقة بالطريقة التي أدرناها بها قد أضرّت بالبلاد وحرّفت من النظام الدستوري وجعلت من السيد الباجي قائد السبسي وكأنه رئيس جمهورية بدستور 1959 وليس بدستور 2014، وحرّفت قليلا المنظومة الحزبية بنوع من التداخل ما بين العائلة والسياسة وفي الأخير ماذا حققت للمواطنين، حققت فقط "السميغ" السياسي، المتمثل في تحقيق استقرار دون ماكينة تنموية، وهو الخطأ الذي أعتقد أننا حاولنا معالجته بعد 22 ماي بمقدار من التوازن.
أما المحور الرابع فهو الوضع الداخلي للحركة المتعلق بالديمقراطية وبالمأسسة والتداول القيادي وغيرها من القضايا الشبيهة.
إذن ليس من السهل إدارة النقاش حول هذه القضايا الأربعة في تنظيم واسع جزء كبير منه محافظ ومازال لم يتخلص من ترسبات فترة السرية، وفي خضم سياق وطني يرى أن كل اختلاف داخل حزب يعني انشقاق، ونحن جميعا مدركون أن هذه التباينات مهما كانت يجب البحث لها عن أوعية لاحتوائها لأننا نعتبر أن استقرار حركة النهضة مصلحة وطنية.
ونحن الآن بصدد التطور في الحوار الداخلي لتجلية محاور هذا الاختلاف، ونحن بصدد الخروج شيئا فشيئا بخطابنا من دائرة التحفظ، بحيث يصبح هناك نوع من العرض الوطني لقيادات في حركة النهضة هي متفقة وتعمل على خدمة المؤسسات في الحزب لكن بأطروحات مختلفة لعديد القيادات بما قد يؤدي إلى وجود نوع من الحساسيات في داخل الحركة لكن تجتمع حول مجموعة من القضايا ضمن الوحدة الكلية.
هذه هي المغامرة التي نحن بصدد خوضها في حركة النهضة، بما يجعل هناك نوع من المراهنة أن حركة النهضة القديمة مشكورة قامت بما استطاعت القيام به، والآن عليها أن تتأقلم مع وضعها الحديث وتدرس جيدا آلياتها المعتمدة في ذلك.
لكن هناك قيادات معينة كانت وراء ما وصلت إليه حركة النهضة القديمة اليوم، وعبد الحميد الجلاصي من بينها، ألم ترى أنكم ظلمتهم باستبعادكم من مراكز القيادة؟
أنا لا أؤمن بالظلم. في السياسة مثلما هناك تدافع وطني بين الأحزاب هناك تدافع على المستوى الداخلي، وعالم الأحزاب والحركات ليس بالضرورة عالم التجانس.. لا أخفيك سرا أن بعض آرائي النقدية للحركة انطلقت منذ جويلية 2013، وكنت حينها الرجل الثاني صلبها ومنسقها العام، وعبرت عن نقدي لبعض المسائل ولكن في دوائر ضيقة لم تتجاوز مؤسسات الحركة.. ثم من شهر سبتمبر 2015، قبل المؤتمر العاشر بمدة، أخذت قراري واعلنت عنه، وقلت أنه مهما كانت نتائج المؤتمر لن أكون معنيا بالمواقع التنفيذية.
يعني الابتعاد كان خيارك؟
كان الامر خيارا مني لسببين، الأول أنني كنت في تلك المواقع منذ أواخر الثمانينات، ورغم أن العمل التنفيذي مهم ويساعد من يمارسه على التشكل إلا أنه يستنزف الاعصاب وياخذ من الانسان الكثير من الوقت في حين انه لدي نهم للقراءة وطموح في الكتابة ولدي اهتمامات اخرى كثيرة، وربما قلت إن عبد الحميد الجلاصي حصر في قوالب نمطية مثل رجل الجهاز أو رجل التنظيم أو الصندوق الاسود.
والسبب الثاني أن طريقة إدارة الحركة لم تكن تعجبني، وهذا لا يعني ان رايي بالضرورة صحيح، باعتبار ان الصواب يبقى دائما نسبي، لكن في النهاية لم أكن أجد نفسي في طريقة إدارة الحركة..
هذا الخيار سمح لي في تقديري أن أبلور أفكاري قبل المؤتمر العاشر وأدافع عنها وأنا مرتاح خاصة وانني أصبحت أدافع عن فكرة لا على موقع، ومع ذلك قلت لما لا أن أبقى داخل حركة النهضة، وأنا معني بالشأن الوطني التونسي ومعني كذلك بتطوير الحركة، ولكن في تموقع آخر.
ثم طرحت على نفسي تحدّ آخر مهم جدا، وهو أن أرى عبد الحميد ليس نائبا لرئيس حركة النهضة أو المنسق العام، خاصة وانني سعيت كثيرا لحثّ أبناء الحركة على المبادرة دائما، فقلت لما لا أرى إن كنت أستطيع التأثير في قرارات حركة النهضة من خارج المكتب التنفيذي أم لا.
ولو عرض علي الآن ان اعود للمكتب التنفيذي لن أعودن وأرى والله اعلم أنني بصدد المساهمة في قرارات حركة النهضة من خلال دوري في مجلس الشورى وعلاقتي الجيدة بالمناضلين.
إذن أنا الآن لست أقل سعادة بما كنت قمت به قبل سنتين، ولست نادما على أي مما قمت به سابقا ولو عادت بي عجلة التاريخ لفعلته. وأتصور أنني مشغول بحال البلاد ولي عديد الصداقات والعلاقات وأحاول أن أكون عنصر تهدئة.. لنترك خلافاتنا وراءنا ونبحث عن مشترك إنساني يجمعنا.
وحركة النهضة هي الآن في نفس تلك المرحلة، وسيكون مؤتمرها الحادي عشر المنتظر خلال شهر ماي 2020، وسيتم فيه التداول القيادي حسب القانون الأساسي للحركة، باعتبار أن الحركة التي تحترم دستور البلاد هي التي تحترم أيضا دستورها والحركة التي تلتزم بتوقيت الاستحقاقات الانتخابية الوطنية هي التي تحترم توقيت الاستحقاقات في داخلها، وأنا أتصور أن هذا سيوجد نوعا من الحراك القيادي الداخلي.
إذن أنت مع تغيير القادة الحاليين للحركة وعلى رأسهم رئيسها راشد الغنوشي؟
هذا الموضوع بالنسبة إلى غير قابل للنقاش، ومحسوم بالقانون الأساسي الذي ينص على أن رئاسة الحركة تكون على دورتين فقط، بقطع النظر عن شخص الشيخ راشد الغنوشي وأدواره في الحركة.
هل رئاسة الحركة طموح بالنسبة إليك؟
(سريع الإجابة) مازلت لا أفكر في هذا الموضوع، فبالنسبة لي الطموح هو أن يصبح في النهضة ثقافة تنافس وحركية جديدة، ولا نحارب الطموح والتنافس لا بدعاوى دينية ولا بغيرها، ولدي طموح بأن تعطى الفرصة إلى قيادات أخرى، وبعد ذلك أن يكون عبد الحميد الجلاصي مرشحا أو حكما أو مسهلا لعملية المخاض هذا، أنا مستعد لكل هذا.
بالنسبة لطموحك السياسي، هل تسعى لمنصب حكومي أو لما لا رئاسة الجمهورية؟
أنا بصراحة أحب السياسية لكن بطريقة مختلفة عن هذا، حتى أحيانا أنا نفسي لا أفهم نفسي، فأنا احب السياسة العميقة التي تقوم على الأفكار والبناء، ولا أرى نفسي في مكتب مغلق وممسكا بوزارة ما وبصدد التقليب في ملفاتها، أرغب أكثر في بناء منظومات وأفكار وقيم.
هذا يستطيع ان يكون عبر مجلس نواب الشعب مثلا؟
ربما، ولكن مازلت لم أحسم أمري أيضا في هذا الصدد، ولكن ما يهمني أني أحب تونس وأريد خدمتها، واحب النهضة وأريد خدمتها، ولكن السياق الذي أستطيع من خلاله القيام بذلك بكل تواضع أرى أنني أستطيع القيام به من مواقع مختلفة، على غرار المساهمة في عدم سقوط الحوار السياسي في البلاد في الابتذال وذلك بالاشتراك مع عدد من العقلانيين في جميع الأحزاب نشترك في ضرورة بناء فضاء سياسي سليم ومتسامح.
ولذلك أنا أعشق الحوار مع الشباب والمناضلين وأرى أن ذلك مجالي، أما الجوانب الأخرى والمطامح الانتخابية لا أستبعدها ولكن مازلت لم أحسمه.
من تراه مناسبا لرئاسة الحركة مستقبلا؟
أولا يجب التأكيد على مجموعة مبادئ وقيم، أولها احترام القانون فالحركة التي تحترم قوانين البلاد يجب أن تحترم قوانينها الداخلية، ثانيا يجب على الجسم الداخلي للحركة أن لا يخاف من التغيير، ثالثا لا يجب الخجل من التعبير عن طموحاتنا ورغبتنا في التنافس، رابعا أن يكون كل ذلك على قاعدة برامج.
في كل الحالات لن يكون أي أحد مثل السيد راشد الغنوشي، ولا اعني بذلك الأفضلية ولكن هو نمط معين من الكاريزماتية والأبعاد الروحية والتربوية.
من حيث الأسماء أنا أرى في أكثر من 20 شخصية تتوفر فيهم المقومات الدنيا هذه.
في رصيد عبد الحميد الجلاصي اليوم 4 كتب آخرها دولة الخوف، ماذا يستطيع القارئ أن يجد في هذا الكتاب، خاصة وأن الكتب السابقة حملت رسائل مختلفة سواء تتعلق بسنوات السجن أو بالحركة أو بالعائلة؟
بداية أريد أن أقول إن لكل شخص حلمه الخاص، وانا منذ صغري بحكم تعليم والدي الزيتوني وجدت نفسي مولعا بالقراءة رغم أن الكتب التي كنت اطالعها غير مفهومة بالنسبة لسنّي، ثم في سنوات الابتدائي كنت كلما أقرا نصا للكتاب الكبار أسال نفسي لما لا يأتي يوم وأقرا فيه نصا لعبد الحميد الجلاصي، وتواصل ذلك حتى عندما أصبحت مهندسا لكني كنت أقرب لعلم الاجتماع والادب، ومحب للكتابة التي أصبحت ضرورة حياتية بالنسبة لي في السجن حتى أنني كنت أدخل في إضراب جوع من أجل الحصول على كتاب أو صحيفة أو رسالة.
وكل رسالة كانت تخرج مني لها بعد وجودي وكأنه جزأ من ذاتي قد تحرر من السجن، ولما خرجت بالفعل وجدت أمامي 550 رسالة موزعة على 17 سنة من رسالة من نصف صفحة إلى رسالة من 5 صفحات طويلة وتتناول مجموعة من القضايا، عندها قلت ان هذه الرسائل ليست ملكي بل هي ملك التونسيين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس، وفي كل مرة كنت أريد فيها نشرها كان الموت يختطف منا مناضلا هو في ذاته قصة ملحمة.
فمررت من فكرة أن الكتابة ضرورة إلى أن عدم الكتابة جريمة ومنذ سنة 2014 بدأت تجميع الرسائل مع نوع من التأطيرن لتخرج السلسلة الاولى حصاد الغياب إلى النور والتي تضمنت كتاب اليد الصغيرة لا تكذب كتحية للمرأة عموما ولزوجتي التي وقفت إلى جانبي حتى ابقى واقفا إلى اليوم وتحية لابنتي التي لم ولدت ولم تجد إلى جانبها والدها، وتحية لكل التونسيين الذين مروا بمعاناة وكانت لهم الشهامة في التغاضي وعدم الانتقام والتشفي، ثم صدر كتاب الشهداء يكتبون الدستور، فالكتاب الثالث وهو طريف جدا السرقة اللذيذة.
والآن مررت إلى سلسلة جديدة وهي دفاتر ما قبل الثورة، باعتبار أنني عندما خرجت من السجن أول ما فعلته شاركت مع إخواني في إعادة بناء التنظيم نعم، ولكن أيضا كنت أكتب للمواقع الالكترونية المناضلة وبعض الجرائد العربية، والآن قلت انه يجب أن تخرج تلك الكتابات للتونسيين ليعلموا أننا تكلمنا عندما كان الكثير صامتين.
والآن وأنا أقرأ كتاب دولة الخوف سعيد جدا أنني كتبت بذلك السقف في ذلك الوقت دون خوف، ولكن أيضا تجد في الكتاب نوع من النبوؤات بما قد يحدث.
وحاليا لدي مجموعة من الافكار للكتابة حول قضايا ما بعد الثورة والانتقال الديمقراطي والمراجعات في فكر الحركة الاسلامية وما تحتاج إليه تونس في المستقبل، كما لدي مسودات حول قضايا تهم الذاكرة من اجل المستقبل وتتعلق بإعطاء مضمون للصراع السياسي باعتبار أن الناس تفقد الحلم والفكرة.