محمد علي الصغير –
بعد سلسلة من العروض على مسرح فضاء التياترو، حطت مسرحية "انتيڤون الخالدة" للمخرجة خولة الهادف، الرحال يوم 2 ديسمبر بمدينة القلعة الكبرى وتحديدا على خشبة مسرح فضاء "كورتينا" الذي أسسه ويديره بكل اقتدار الفنان والمخرج المسرحي محمد علي سعيد.
تحت أنظار جمهور غص به فضاء كورتينا، انطلق العرض الذي يديره فنيا المسرحي اللامع توفيق الجبالي. "انتيڤون الخالدة" من انتاج "التياترو وزنوبيا" و"التياترو استوديو"، هي محاكاة لأسطورة يونانية بطلها "أوديب" الذي دعا على ابنيه باللعنة وبأن يقتل أحدهما الآخر.
ابنا "اوديب" "ايتوكوليس" و"بولينيس" الذان كانا ثمرة الخطيئة التي ارتكبها "أوديب" بعد قتل ابيه وزواجه من أمه هما مفتاح القصة وأصل الحكاية. فبوصولهما الى الحكم يختلف الأخوان ويتصارعان على الحكم، فينتصر "ايتوكوليس" بخاله "كريون" على اخيه "بولينيس". يتقاتل الاخوان وتتحقق لعنة "اوديب". فينتقل الحكم الى الخال "كريون" الذي يعد جنازة ملكية "لايتكوليس" ويتوعد كل من يحاول دفن جثة "بولينيس" التي تركها تتعفن وتقتات منها الكواسر والوحوش كمحاولة انتقامية من ابن أخته المتمرد.
هذا القرار الجائر كان الشرارة التي أطلقت ثورة هادئة قادتها "أنتيڤون" شقيقة "بولينيس" التي تحدت الملك "كريون" ورفعت لواء الرفض والعصيان والتمرد أمام جور الملك… أقرب الناس اليها… لم تطلب "انتيڤون" المستحيل… فقط ان يتحلى "كريون" بانسانيته وان يتركها تدفن جثة اخيها… "انتيڤون الخالدة" حملت بصمة واضحة من بصمات الفنان توفيق الجبالي… المسرحية بدأت بمشهد عنف تتعرض له "أنتيڤون"… المرأة الحالمة بتغيير الواقع… بالوقوف امام الأنا الذكورية القمعية…
"أنتيڤون"… رغم الترهيب والتعذيب صرخت بأعلى صوتها "لا" القطعية… فحتى محاولات اختها "إسمين" لإثنائها عن التمرد لم تمنها من المضي قدما في مواجهة الظلم والطغيان… "أنتيڤون" هي كل إمرأة في هذا الوطن تدافع بكل شراسة عن ذاتها، عن كرامتها، عن حلمها…. في أن تكون حرة… حرية "انتيڤون" تتجسد في تحقيق أملها أن تكرم جثة أخيها المغدور… فعدم دفن الموتى هي كبيرة تحرمها الديانة اليونانية القديمة حسب ما جاء في الاساطير… "انتيڤون" هي الصوت الخافت الذي يهتف في كل ذات بشرية بأن ترفض الانصياع والرضوخ والموت في صمت… الصمت كان عدوا شرسا "لانتيڤون"… وكذلك "كريون" وزبانيته وزمرته من المعاونين الذين تآمروا عليها الا قلة شاذة رفضت الظلم والظغيان….
لحظات الصمت في مسرحية "انتيڤون الخالدة" كانت قليلة…. وكذلك "انتيڤون" التي مانفكت تصرخ باعلى صوتها أمام الملك "أنا لم أوجد لكي أعيش مع كراهيتك ولكن لكي أكون مع الذين أحبهم"… هي ثنائية أخرى قامت عليها "انتيڤون الخالدة"…. الحب والكراهية… وكذلك ثنائية الرجل والمرأة التي ما فتئ يكرسها "كريون" في كل خطاباته "لا إمرأة تضع القانون"… الموت والحياة… الحب والكراهية… الرجل والمرأة… الظلم والعفو… النور والظلام… ثنائيات لا تكاد تغيب عن النص وكذلك على التصور الركحي الذي اعتمد على ديكور بسيط طغى عليه اللون الاحمر القاني والاسود وهي الوان الدم والموت والحزن… هذه الثنائيات هي ترجمة واقعية لما يعيشه مجتمعنا اليوم وتحولت الى عناوين لنقاشات فكرية تحول البعض منها الى صراعات ايديولوجية وسياسية تكاد تعصف بالاستقرار الاجتماعي لوطننا.
طيلة ساعة من الزمن استمتع الجمهور الحاضر بمسرح "كورتينا" بعرض رائق كان فيه الآداء الفني لكامل الفريق متميزا وعفويا واصبغت عليه عملية "عصرنة" النص والحوار والديكور رونقا خاصا ساهم في تفاعل الجمهور المتعطش لمثل هذه العروض الفنية الهادفة. هي بادرة أكد المبدع محمد علي سعيد أنها ستتكر من خلال برمجة العديد من العروض المسرحية الأخرى ذات القيمة والجودة الفني وذلك بهدف خلق ديناميكية مسرحية في مدينة القلعة الكبرى.