عن خمسينيّة الاركستر السمفوني التونسي: “الحياة بلا موسيقى خطأ وتعب ومنفى”

يسرى الشيخاوي-
تدخل إلى قاعة الاوبرا بمدينة الثقافة محمّلا بأدران الحياة وروتين اليومي ورتابته، تجول بعينيك بين فسيفساء الجمهور تتخلص من أحمالك على مهل، وتتأمل القاعة التي غصّت مقاعدها بالجمهور الذي أتى على كلّ تذاكر حفل الاركستر السمفوني التونسي يوما قبل العرض.
 
بعد نصف ساعة من الانتظار، لم ينقطع فيها توافد الجمهور على قاعة الاوبرا، حيث رٌتبت المقاعد على الركح تنتظر العازفين الذين أطلوا بأزيائهم الموحّدة وتبوّءوا أماكنهم وعانقوا آلاتهم.
أطلقت الكمنجات همساتها الساحرة ولبت بقية الآلات الموسيقية النداء، ليطل المايسترو فيصل القروي ويؤذن بانطلاق رحلة تتمنى إثر انتهائها أن لا تتوقف الموسيقى والا تكف الأرض تحت قدميك عن الرقص.
 
"الحياة بلا موسيقى خطأ وتعب ومنفى"
 
كل تلك المشاكل التي تبحث عن حلول دون جدوى وتلك المخطّطات التي لا تجد طريقا إلى تنفيذها وتلك الأحلام التي صارت كوابيس وتلك الوعود التي بليت في رفوف الذكريات تتلاشى شيئا فشيئا لتترك مكانها لموسيقى نوتاتها ترياق يسد الثقوب التي أحدثها الزمان في ذاكرتنا.
 
يغازلك العازفون بموسيقاهم وتنساب النوتات رقيقة حتى أن كل المسام والخلايا تنصاع إليها وتدخل في حالة من الخدر والنشوة.
 
في لحظة بعينها تشعر بأن الموسيقى تعانقك تربت على كتفك وتهمس في أذنيك "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
 
وبغض النظر عن سطوع نجم الموسيقي فيصل القروي عالميا، فقد أضفى من روحه الفنية على افتتاح الموسم الموسيقي للاركستر السمفوني التونسي التي يتزامن مع خمسينيته، فكانت الموسيقى تحاكي الطبيعة في سكونها وصخبها.
 
همسات الكمنجة الرقيقة، وآهات التشيلو وهمسات الترومبيت وأنين الفلوت وغضب الإيقاع، تتماهى فيما بينها وتتحد النوتات لتخبرك أن "الحياة بلا موسيقى خطأ وتعب ومنفى" على رأي فريديريك نيتشه.
 
"الموسيقى تعبر عما لا نستطيع قوله"
 
يقول الكاتب الفرنسي فيكتور ايغو إن الموسيقة تعبر عما لا نستطيع قوله، وكانت الموسيقى التي خلقتها لمسات ونفخات عازفي الاركستر السمفوني التونسي تعبيرات عن أحاسيس ربما تعوزنا الشجاعة لنصرح بها أو ربما تخوننا الظروف.
 
قد تكون هشا من الداخل ولكنك تتظاهر بالقوة لتمضي في طريقك الطفولة جدّا، إذا أغمضت عينيك وانت تستمع إلى الموسيقى التي تردد صداها في قاعة الاوبرا بمدينة الثقافة ستتراءى لك نفسك كما هي ابنة هشة وربما منكسرة في انحناءة بعض النوتات.
 
وقد يجبرك الواقع أحيانا على كتم صرخة حتى تختنق داخلك، لكن الموسيقى بعثتها حية من جديد، قد يطول الحديث عن الأحاسيس والمواقف التي يمكن أن تعبر عنها الموسيقى دون كلام خاصة وأن 76 عازفا استحضروا سمفونيات كلاسيكية وقطعا اوبرالية جمعت المتناقضات من المشاعر.
 
الفرح يليق بتونس
 
خمسينية الاوركسترا السمفونية انطلقت بمقطوعة حلاق إشبيلية لروسيني، معزوفة لينة وهشة وصلبة وقوية تُؤوي بين نوتاتها بعضا ممّا يمر به الإنسان في مراحل حياته.
 
نقرات صاخبة تشبه تلك التي تحدثها حبات البرد على زجاج النوافذ، ورفرفة أجنحة الطير جزعا إذا ألقى عليها صبي الحجر، هي بعض الصور التي قد تحيلك إليها السمفونية الخامسة لبيتهوفن، غضب وحماسة وثورة وهتافات خافتة انبعثت من آلات العازفين.
 
ولأن الفرح يليق بالتونسيين قدم الاوركستر السمفوني بمشاركة الكورال "أنشودة الفرح" من السمفونية التاسعة لبيتهوفن، هي مقطوعة تجمع بين التعقيد والبساطة في اللحن ولكنها تجد طريقها سريعا إلى المستمع.
 
ثم قدم الأركستر مقطع " جوقة الغجر" من أوبرا"لا ترافياتا" لجوزيبي فيردي، وانسابت فيها أصوات السوبرانو والتينور متحدية جدران قاعة الاوبرا، التي اهتزت على وقع تصفيق الجمهور بعد أداء مقطوعتين من سمفونية "كارمينا بورانا" لكارل أورف، أداء امتزجت فيه الحرفية والاحساس فتجاوب معه الجمهور.
 
هوامش
 
يقول بتهوفن إن الموسيقى هي الجمال المسموع والحلبة التي تربط الروح بالحس، ولكي يكتمل هذا الرابط كان ينبغي للقائمين على ترتيب افتتاح الموسم الجديد للاركستر السمفوني ان يولوا اهتماما للإخراج والإضاءة لأن الموسيقى تروي مشاهد وفي الأثناء تدفعك إلى البحث عن صور وكلمات وربما نور يجعلك منسجما معها.
 
والافتتاح شدّ إليه جمهورا راقيا ومنصتا للنغمات الفخمة ومتماهيا معها، وهو أمر يفند مقولة " الجمهور عاوز كدة" التي تبرر ظهور بعض الفقاقيع الفنية بين الفينة والأخرى.
 
ويظل الأمل في أن يحلّ الجمهور كل الجمهور إلى قاعة الاوبرا قبل انطلاق العرض قائما، فليس من الجميل أن ينطلق العرض بباب مفتوح يفد منه " المتأخرون" كل على حدة.
 
عين على الاركستر السمفوني التونسي
 
الأركستر السمفوني التونسي فرقة كلاسيكية، رأت النور سنة 1969 بعد إنشائها من قبل وزارة الثقافة التونسية بإشراف صالح المهدي.
 
في بدايتها لجأت الاركستر إلى موسيقيين بلغار وإيطاليين وقائد أوركستر فرنسي هو جون بول نيكولي، قبل ان يقودها التونسي أحمد عاشور عام 1979.
 
وسنة 2012 آلت قيادة الاركستر إلى الموسيقي حافظ مقني وأصبحت تمس جمهورا أوسع من خلال حفلات تقوم على مواضيع بعينها على غرار " موسيقى الفيلم" و" حفلات  بيداغوجيا" و" حفل بداية السنة" 
 
وسنة 2017 أصبح للاركستر كورال خاص عبر مناظرة ارشفت أشرفت الميزوسوبرانو التونسية الروسية أميرة دخلية.
 
وبقيادة محمد بوسلامة في السنة الجارية أن للاركستر توجه استراتيجي يستند إلى دعوة عازفين وقائدي فرق عالميين للمشاركة في حفلاتها والاسهام في تكوين العازفين في أكاديمية الاركستر.
 
وفي نفس السياق بٌعثت أكاديمية الاوركسترا التي يديرها فادي بن عثمان  وهي مشروع تكوين اركسترالي للموسيقيين الشبان.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.