52
يسري اللواتي-
وسط زحام المساجين والضيوف ذوي البدلات المرتبة بعناية فائقة وأعين أعوان الحراسة التي تترقب كل حركة صغيرة أو كبيرة، كان يُسارع لانتهاز فرصة القاء أو اذاعة أبيات من قصائده التي بقيت مثله حبيسة جدران سجن المرناقية وأسواره منذ أكثر من 14 سنة.
في البداية بدت الزيارة الى سجن المرناقية الذي يبعد عن العاصمة بعض الكيلومترات روتينية جدا لا تحتمل الا تغطية صحفية جافة لحدث عرض فيلم "في عينيا" للمساجين في الرابع من الشهر الجاري ضمن فعاليات مهرجان قرطاج السينمائية، إلا أن سجينا مميزا من ضمن "الكراكة" الذين تابعوا الفيلم لفت الانتباه حين أجمع جل أعوان السجن على الاشارة عليه ومناداته بكنية "الشاعر”، وقد بدا أنه ذو صيت واسع ومحترم ضمن فئات المساجين المتعددة.
بحكم رقابة الأعوان المشددة على المساجين الذين أنهوا متابعة الفيلم وبدؤوا في التحضير لعودتهم الى زنزاناتهم، كانت مهمة التحدث الى "شاعر سجن المرناقية" بمثابة التحدي خاصة وأنه اختفى وسط جمع المساجين الذين بلغ عددهم في ذلك اليوم 500 شخص، إلا أن أحد الأعوان بادر بعد طلب متكرر باستدعاء الشاعر لحديث صحفي يتحدث فيه عن أشعاره التي باتت مفخرة لاطارات سجن المرناقية.
ظهر فتحي (اسم مستعار) "شاعر سجن" المرناقية، عند اخباره بطلب اجراء الحديث الصحفي متوجسا في البداية، إلا أنه لم يخف تحمسه لاذاعة قصائده ويتحدث عن أشعاره، فهذه الفرصة قد لا تكرر مرة أخرى، فاختار ركنا منزويا في مدخل خيمة العرض السوداء.
بنظرة واثقة وجبين أغرقه العرق وشفاه لاصقت آلة التسجيل قال فتحي " أنا مشهور هنا كوني أنظُم الشعر لذلك سألقي عليك أبياتا من احدى قصائدي حتى يقرأها من في الخارج من الناس وأرجو منك نشرها".
تنهد الشاعر قليلا ثم أنشد يقول وهو يرمق أعوان الحراسة بنظرات متوجسة:
حاكموني بالمؤبد دون فهم للقضية..
وكأني المتسبب في الحروب العالمية..
وفي تقسيم العرب ونقض صُلح الحُديبية..
حاكموني دون فهم للقضية ..
وكأني المتسبب في مآسي البشرية..
وفي زلزال تسونامي..
وسقوط الشيوعية..
وقتل حمزة في أحد ..
وعنترة في الجاهلية..
كبلوني بالتهم..
أصبح القانون مستبدا منتقم..
قلت لهم يا سادتي هل تؤمنون بالقسم..
قالوا لو أقسمت ساجدا بين أسطار الحرم..
والانجيل والتوراة وكل اديان الأمم ..
وطقوس السابقين وأساطير العجم..
سوف تقضي في السجون عهد نوح وارم ..
ستعيش ما حييت في دهاليز العدم ..
هكذا قال القضاة ..
هكذا قال الحكم ..
رُفع اللوح المحفوظ فاروق قد جف القلم".
يؤكد فتحي بعد أن انتهى من القاء قصيدته أن له زملاء آخرين في السجن ينظمون الشعر، كاشفا عن انهائه لديوان شعر واشتراكه مع سجين آخر في كتابة ديوان ثان.
أبرز فتحي من خلال حديثه أن الـ 14 سنة التي قضاها في سجن المرناقية ساهمت في تمكنه من كتابة الشعر العمودي بمواضيع مختلفة رفقة عدد من الشعراء الآخرين وبمتابعة من شعراء محترفين أمنوا لهم أكثر من 16 حصة بالسجن.
"كتبت عن قضيتي والمرأة التي أحببتها ثم قتلتها"، بوجه تراخى الى الأسفل ونبرة طغى عليها الحزن والتردد كشف فتحي عن تأليفه لقصيدة تضم 630 بيتا مقفى، تحدث فيها عن حبه للمرأة التي أحببها ثم قتلها لينال عقوبة السجن المؤبد.
التقط "شاعر المرناقية" أنفاسه لوهلة ثم سارع لالقاء البعض من قصيدته التي نظمها عن حبيبته، يقول :
"اعترفي أنك كنت السبيل..
وبحر الحياة ودروب المستحيل..
تكلمي مرآة قلبي..
تكلمي بعد الرحيل..
قولي حاكموه أيها المحققون..
حاكموه عذبوه مزقوه في السجون..
حاكموا فيه المبادئ..
حاكموا فيه الجنون..
قولي اقتلوه سادتي الرؤساء ..
اقتلوا فيه المبادئ والوفاء..
اقتلوا فيه المحب لفصول في القضاء..
تكلمي مرآة قلبي ..
كلميهم يا رجاء..
تكلمي يا وهرة الياسمين..
باسم الحب والعذاب وباسم رب العالمين ..
تكلمي مرآة قلبي وملاك العاشقين ..
قولي أن حبك في الوجود لا يموت مع السنين..
وأن ارداة الله قبل ارادة السكين.
بعد أن أنهى فتحي القاء بعض الأبيات من قصيدته، عبّر عن أمله في أن يطبع ديوانه "الطوفان" ويوزع في الخارج حتى يتطلع عليه الآخرون ويشاركوه محنته في السجن.