سينما داخل السجون: “لكراكة” سجن المرناقية نصيب من البساط الأحمر لأيام قرطاج السينمائية

يسري اللواتي-

 يبدو الحديث عن عرض أفلام داخل السجون التونسية غريبا ومثاليا الى أبعد الحدود، لكنه أصبحت عادة تحرص عليها الادارة العامة للسجون التابعة لوزارة العدل وادارة أيام قرطاج السينمائية والمنظمة  الدولية لمناهضة التعذيب، بهدف خلق فسحة فنية وترفيهية للسجناء المتعطشين لتجربة مختلفة داخل الأروقة الغرف.
 
من مدينة الثقافة بالعاصمة الى سجن المرناقية بمنوبة، يبدو كلا المكانين مختلفين موضوعيا ولا نقاط مشتركة بينهما، فالأول رمز للثقافة والابداع والحرية والثاني للعقاب والقيود ، لكن أيام قرطاج السينمائية أضفت منذ أربعا سنوات توجها فريدا داخل السجون التونسية عبر عرض أفلام للنزلاء بهدف محو الفوارق بين من ينعمون بالسينما داخل القاعات والآخرين داخل الزنزانات.
 
هذه السنة افتتح مهرجان أيام قرطاج السينمائية يوم السبت 3 نوفمبر وسيكون لنزلاء السجن المدني بالمرناقية في اليوم الموالي موعد مع عرض فيلم "في عينيا" للمخرج التونسي نجيب بلقاضي، كافتتاح لسلسلة العروض التي ستجوب سجونا أخرى في مختلف الولايات.
 
السجناء "الكراكة" على البساط الأحمر..
 
بين أروقة سجن المرناقية المتشعبة والمزينة برسومات جدارية أضفت طابعا مرحا على المكان، نصبت خيمة سوداء كبيرة ستكون بمثابة القاعة التي ستستضيف حوالي 500 سجينا سيتابعون عرضا افتتاحيا لفيلم ”في عينيا”، سيختتم بفتح نقاش مع المخرج ويشارك فيه السجناء.
 
داخل الخيمة المضلمة كان كل شيء مرتبا بعناية فائقة، وكذلك كان جمع السجناء الذين توافدوا بصفوف منظمة وطويلة أمام "قاعة العرض" لمتابعة الفيلم، ومنذ المدخل نصب بساط أحمر طويل يوجه السجناء الى أماكن جلوسهم  
 
حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحا انطلق توافد "السجناء الكراكة" الواحد تلو الآخر الى الكراسي بخيمة العرض، و"الكراكة" لفظ متداول بكثرة بين الاعوان والمساجين على حد السواء، وهو توصيف للنزلاء الذين قضوا عقوبتين أو أكثر بسجن المرناقية
 
فيلم "في عينيا" أتاح فرصة غير مسبوقة للقاء..
 
قبل انطلاق العرض بدقائق، استغل السجناء من مختلف الشرائح العمرية فرصة مشاهدة الفيلم بصفة جماعية، لالقاء التحية ومواساة بعضهم البعض اضافة الى التساؤل عن مستجدات قضاياهم بالمحاكم وموعد الافراج عنهم.
 
انطلق العرض وتزامن معه سكون رهيب داخل الخيمة الواسعة، وبدا الكل منتبها الى مشاهد الفيلم ماعدا بعض أعوان السجن الذين حرصوا على فرض الانضباط على النزلاء ورغم خصوصية المكان والتفاصيل كان صعبا رصد أي فرق أو اختلاف بين قاعات العرض المعتادة وخيمة سجن المرناقية المخصصة لبث الفيلم.
 
تخلل بث فيلم "في عينيا" نقاشات ثنائية ومتفرقة بين المساجين أو ضحكات خفيفة كانت تفاعلا تلقائيا مع مواقف مضحكة أو حميمية عرضت بالفيلم.
 
للاشارة فإن فيلم "في عينيا" للمخرج نجيب بلقاضي يروي عبر الدور الرئيسي الذي أداه الممثل نضال السعدي، قصة الشاب لطفي الذي يعيش في فرنسا ليجد نفسه مضطرا الى العودة لتونس للاعتناء بابنه الذي يعاني من التوحد.
 
وعلى تصفيق "الكراكة" ومجمل الحضور من أعوان السجن واطاراته، انتهى العرض الذي دام أكثر من ساعة، ليبدأ بعد ذلك نقاش مطول مع السجناء بخصوص دعوى اختيار  المخرج لموضوع "التوحد لدى الأطفال" كمحور رئيسي للفيلم.
 
ساعة ونصف من العرض غيرت رؤيتي للبلاد..
 
يقول نادر (اسم مستعار لسجين شاب) إن عرض الفيلم بالسجن مثل دافعا مهما حتى لا يشعر السجين بأنه مختلف وفي غربة داخل وطن واحد معبرا عن اشادته بالمبادرة التي تؤكد أن الدولة مهتمة بهذه الفئة، وفق تعبيره.
 
ويضيف نادر أن عرض الفيلم مثل فرصة حتى يتعرف النزلاء على مرض التوحد اضافة الى فتح نقاش جماعي بخصوص الفيلم، مشددا على أن العرض سيكون له أثر ايجابي من خلال توجه السجناء نحو الابتعاد عن التطرف أو الجريمة.
 
واختتم السجين بالقول إن "ساعة نصف من العرض ساهمت في تغيير رؤيته للبلاد التي كان يعتقد أنها تنبذه"، وفق تعبيره.
 
السجن مكنني من مشاهدة الأفلام لأول مرة في حياتي..
 
من جهته أكد فاروق (اسم مستعار لأحد السجناء) أن عرض الفيلم مكن نزلاء سجن المرناقية من التعرف على تفاصيل كانت مجهولة بخصوص التوحد لدى الأطفال، اضافة الى تقديم نصائح مهمة حول كيفية التعامل مع هذا المرض، وفق قوله.
 
وعن الآثار الايجابية التي سيخلفها عرض الفيلم، رجح المتحدث أنها ستساهم في اصلاح طباع السجين من خلال الابتعاد عن السلوك السيء ، مبينا أنه لم يزر في حياته قاعات السينما الا أن ادارة السجن مكنته من مشاهدة فيلم داخل أروقة السجن.
 
مسار اصلاحي مطول لادارة السجون..
 
من جهته قال الناطق الرسمي باسم الادراة العامة للسجون والاصلاح سفيان مزغيش إن عرض الفيلم يندرج ضمن مسار كامل للاصلاح تبنته الادارة منذ أربع سنوات، لافتا الى أن 5 آلاف سجين تابعوا الفيلم كذلك من داخل الغرف.
 
وتابع بأن 15 الف سجين سيتمكنون من متابعة الافلام من الغرف بمختلف الوحدات السجنية الخمس التي سيقع فيها عرض الأفلام بالاشتراك مع ادارة المهرجان.
 
وذكر في سياق متصل بان عددا من البلدان العربية على غرار المغرب والجزائر وجهوا ممثلين لهم بالسجن حتى يستأنسوا بالتجربة التونسية في هذا المجال
 
الفيلم خلق جوا مغايرا للسجناء..
 
وأفاد مخرج الفيلم نجيب بلقاضي بأنه من البديهي أن يعرض الفيلم في سجن المرناقية مع المساجين، معتبرا أن ساعتي بث الفيلم خلقت جوا مرحا ومغايرا للنزلاء .
 
وشدد بلقاضي على أنه من المهم أن يتم اثارة نقاش مع السجناء بخصوص فيلم "في عينيا" وذلك من أجل تبيان رأيهم بخصوص الموضوع ، معبرا عن اعجابه بمدى تفاعل الجمهور التلقائي مع تفاصيل الفيلم.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.