“الهائمون” أو حينما ترثي سينما الصحراء هيبة ضائعة

يسرى الشيخاوي-
 
لا يبدو الوضع عام 1984 مختلفا كثيرا عن الوضع الآن، ويبدو أن 34 سنة بأيامها ولياليها لم تكن كافية لبلوغ أعتاب المجد الهائم ولا ملامسة الهيبة الضائعة، الهائمون في دروب الصحراء، الراكضون وراء السراب، الباحثون عن الحقيقة في حطام المرايا، الراقصون على صدى العويل، ليسوا فقط أبطال فيلم "هائمون" للمخرج الناصر خمير، الذين ولوا وجوههم شطر المجهول، الهائمون ممتدون في التاريخ بما رحب، تختلف تجليات التوهان بين الماضي والحاضر والمستقبل ولكن الهيم هو الهيم.
 
و"الهائمون" فيلم روائي طويل رأى النور  سنة 1984 وعاد إلى قاعات السينما التونسية بعد ان تمّت رقمنته، من بطولة  كل من  سفيان ماكن ونور الدين قصباوي وناصر خمير وسونيا ايشتي وحسن الخلصي وعبد العظيم عبد الحق، هو تجربة إنسانية عميقة جسّدها ممثلون منهم من غادر أرض الهائمين إلى السماء، عمل سينمائي لا يحدّه لا الزمان ولا المكان، فالهائمون ملح كل الأزمنة والامكنة وإن إختلفت تمظهراتهم.
 
والعمل السينمائي الذي حصد جوائز مهمة، يضع الهامش في مواجهة المركز، والمنطق والعلم في مواجهة الأسطورة والخرافة، والفرد في مواجهة المجموعة، عمق الترميز وتفرع الدلالات، يجعلك هائما بين الماضي والحاضر باحثا عن الحقيقة بين الكثبان الرملية، هي سينما الصحراء إذ ترثى تأرجحنا بين الموجود والمنشود.
 
العلم في مواجهة الخرافة
 
تنطلق رحلة الحيرة والغموض  في "الهائمون" من المشهد التصويري الأول، حافلة تمخر عباب الصحراء، تقل رجلا نحيلا بسحنة خارجية تحيل على التمدن، وجهته قرية وسط الصحراء نفى سائق الحافلة وجودها فيما  أثبته عجوز تعهد بدله على السبيل إلى القرية، ومن هنا تنطلق رحلة التساؤل عن سر هذه القرية، الرجل النحيل ليس إلا " عبد السلام" معلم أرسلته السلط المركزية لتعليم اطفال القرية الصحراوية النائية التي تنخرها الخرافات.
 
حفّار الكثبان الرملية الباحث عن الكنز الموؤود، الهائمون المتدثرون بغبار الصحراء، صبية الحي الذين يتنافسون على كسر المرايا، الطفل حسين وتواصله مع جن البئر حسن، ابنة شيخ القرية ووشمها الذي لا يبوح بأسرارها وعينيها المثقلة بحكايات معتقة، رسم البراق الذي يتركه شباب القرية قبل أن يهيموا على وجوههم في الصحراء، سلسلة من الألغاز الغامضة تجلت امام " عبد السلام"، "عبد السلام" رجل التعليم بما يحمله من منطق وعقلانية وفكر، في مواجهة الأسطورة التي تفشت بين أهالي القرية حتى باتوا عتقدون اعتقادا أعمى في لعنة حلت بأبنائهم.
 
 الأنثى حمالة ألوية السر والغموض
 
الصحراء أنثى يهيم فيها شباب القرية والمرآة أنثى يكسرونها لتتشظى الصور النمطية، والبئر أنثى مسكونة بجن تلاشت أسطورتها عند امتحان شفاء جدة حسن المريضة، والاسطورة أنثى أغوت أهل القرية  واللعنة أنثى اسرتهم، وحتى الدولة أنثى تبحث عن هيبتها، كل هذه الإناث تجلت في صورة ابنة شيخ القرية تلك الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعا، فتية لكنها عميقة وغامضة.
 
الوشم في عيني الفتاة، وتلك النظرة الغامضة التي ترمق بها المعلم "عبد السلام"، نظرة تحكي الف حكاية وحكاية، لون بشرتها، الكحل في عينيها وحليّها الصاخب الذي يعمّق سكونها، تلك الإشارات الغامضة التي تؤتيها كلما رأت المعلّم، تفاصيل تحيلنا إلى قصة آدم وحواء ونزولهما من الجنة، لكن هذه المرة حواء أغوت آدم بمرآة لتقوده إلى جنان كتب على أبوابها "لا يدخلها إلا المحبّون".
 
بين الحسي والمادي
 
"الهائمون" مفردة تحوي بين طياتها معاني الحيرة والضياع وحتى الغربة والاغتراب، وهو ما يمكن تفسيره بأن المتدثرين بغبار الصحراء إنما يهربون من واقع مادي ربما لانعدام رغبتهم في فهمه أو ربما عجزهم عن فهمه، غلفوا حيرتهم بلعنة خلقوها في عقولهم وهاموا في الصحراء.
 
وفي الطرف الآخر من القصة، المعلم "عبد السلام" يمثل العلم بما هو معرفة مادية ونظرية، فرد عاجز عن الانخراط في مجتمع صحراوي يبحث شبابه عن مجد ضائع، مجتمع يحاول تفكيك غرابته وإلغازه من خلال التساؤل.
 
وفي الوقت الذي يحصل فيه على دليل مادي وهو كتاب أعطاه إياه "الحاج" ليعيد به أبناء القرية الهائمين على وجوههم في الصحراء، ليجد نفسه أسيرا لمرآة ابنة الشيخ ووشمها ونظراتها الغريبة ويلتحق دون وعي بركب الهائمين، تشد عجوز غامضة على يده وتأخذه إلى قلب الصحراء ولسان حالها يقول إن الأسطورة قد تبتلع العلم.
 
صراع الهامش والمركز 
 
صراع الهامش والمركز  يتجلى في منظورين أحدهما سطحي والآخر أعمق، يتعلق الاول باختلاف المظهر بين "عبد السلام" الوافد الجديد إلى القرية الصحراوية وأهل القرية، واختلاف نظرتهم للعنة والاسطورة والثاني يتعلق بعلاقة الفرد بالدولة، اولائك الأفراد الذين يعيشون في أقصى الجنوب، يهيم أبناؤهم في الصحراء ولا يتواصلون مع المركز إلا حينما اختفى المعلم القادم منه.
 
المركز يتجلى في شخصية الضابط الذي يحقق في اختفاء المعلم " السلام" يحمل على عاتقه هم الحفاظ على هيبة الدلة، هم يمتد إلى أيامنا هذه، يعجز المركز عن استيعاب الهامش بما يحتويه من أسطورة ووعي جمعي باللعنة، يرفض عقله تصديق قصة الفتيان الهائمين، تحاصره الألغاز ويقرر الرحيل ويغيب وسط غموض الصحراء، وتطمر الرمال هيبة الدولة والقانون.
 
في الطرف الآخر، حسين الطفل الذي يغرّد خارج السرب، لم يسلم بواقع اللعنة وحاول فك لغز الهائمين إلى أن قرر في نهاية الفيلم أن يغادر الهامش إلى المركز المنشود، إلى قرطبة، سيغادر الصحراء عبر البحر.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.