في ندوة فكرية بالقلعة الكبرى: المنظومة التربوية والتعليمية على صفيح ساخن

محمد علي بن الصغير-


ماهي معوقات منظومة التربية والتعليم في تونس؟ هل ثمة مسارات حقيقية للخروج بهذه المنظومة المعتلة من واقعها الراهن؟ ماهي آفاق ومستقبل هذه المنظومة التي أصبحت ضحية صراعات سياسية وفكرية وايديولوجية؟
هي أسئلة حارقة تم طرحها صباح هذا الأحد 21 اكتوبر ضمن ندوة فكرية التأمت بمدينة القلعة الكبرى ونظمتها جمعية دروب للثقافة والتنمية. 
 
خلص المشاركون في هذه الندوة التي حضرها عدد هام من ممثلي الإطار التربوي بالجهة، أن المربي أو المدرس هو المحرار الحقيقي لنجاح المنظومة التربوية من عدمها. وكل عملية إصلاحية لا تأخذ في عين الاعتبار مصالح المدرس ولا تراعي خصوصياته وظروفه الاجتماعية والنفسية ومهاراته العلمية والبيداغوجية، لا يمكن لها أن تبلغ بهذه المنظومة الى بر الأمان. 
 
منظومة تئن وتتألم
لا يختلف اثنان اليوم ان المسألة التربوية في تونس أصبحت وعلى حد توصيف النقابي محمد حليم المشارك في هذه الندوة، "شأنا يؤرق الناس". هذا الشأن الذي يعتبره حليم مشكلا مجتمعيا وليس لأحد الحق في احتكار الخوض فيه، لا يتم النظر اليه من زوايا مشتركة بل اخطر من ذلك فكل له حساباته ومصالحه. ولعل ما زاد في تعميق ازمة التعليم في تونس، وعلى حد توصيف وزير التربية السابق  فتحي الجراي، غياب الحوكمة الرشيدة وهي حوكمة مزدوجة بالأساس قوامها الإداري والتربوي. وهو ما ساهم في خلق العديد من العوائق أمام ثبات المنظومة التربوية ككل، وهي عوائق بالأساس وعلى حد رأي الجراي سياسية ومنظومية وسياقية وتنظيمية وترتيبية ونفسية وثقافية.
هذه المنظومة التي تئن وتتألم لما أصابها من وهن وترهل بعد ان كان يضرب بها المثل على الصعيد الدولي، تواجه اليوم تحديات جمة وتحتاج الى عملية اصلاح عميق وجوهري يجب ان يمس بالأساس الممارسات البيداغوجية التعليمية التي تعتمد أساسا على التلقين كوسيلة تعليمية رئيسية. هذه الطريقة التي اثبت محدوديتها وساهمت في عرقلة تطور التفكير والتجديد لدى التلميذ، هي نتاج ما اصطلح على تسميته حسب الوزير السابق بطريقة "الفتق والرتق".
 
من المسؤول ؟
نظريا طرح هذا السؤال يكون دائما أسهل من الإجابة عليه. لكن في هذا السياق بالذات أجمع المتدخلون، وبدرجات متفاوتة، على القاء المسؤولية على عاتق الدولة وبالأخص الجهة الرسمية الراعية للعملية التربوية. لكن هل هذا يعني ان الدولة مقصرة ام انها عاجزة؟ أنكى من ذلك حسب محمد حليم، الذي لم يتوان عن اتهام الحكومات بالمساهمة في ضرب المنظومة التربوية عبر تقاعسها واحرصها على عدم التغيير. فهي كما يقول "لن تساهم في الإصلاح لان النتيجة تصب في صالحها".
 كما اعتبر حليم أن المنظومة التربوية كانت ضحية تراكمات من الإصلاحات المفروضة علينا بطريقة قسرية منذ زمن بعيد. محمد حليم الذي اعتبر ان المشرفين على المنظومة التربوية منذ الاستقلال خضعوا الى أطراف اجنبية كانت تمول المنظومة التربوية حسب اجنداتها الخاصة ومصالحها الاستراتيجية. واستشهد حليم بالإصلاحات المتناقضة التي تمت في عهدي كل من المسعدي مثلا ومحمد مزالي.
 محمد حليم الذي ما فتئ يستشهد بالتجارب الأجنبية في نجاح المنظومة التعليمية على غرار التجربة الفنلندية لا يرى بدا من اعتماد عملية إصلاحية قوامها المدرسة والمدرس. وهذا يفترض أساسا تحسين وضعية المربي وكذلك مراجعة عملية اعداد الكتب والمراجع المدرسية التي تشوبها حسب النقابي حليم "أخطاء جسيمة وتتدخل في عملية طباعتها لوبيات".
 
الحلقة المفقودة 
المتدخلون في هذه الندوة التي ادارها بكل اقتدار رئيس جمعية دروب للثقافة والتنمية سفيان الفقيه الفرج، خلصوا الى ضرورة ان تتحمل الحكومات والمشرفون على الشأن التربوي المسؤولية كاملة عن انحدار مستوى التلميذ وتواضع تحصيله العلمي. لكن يبقى السؤال الملح  "اين التلميذ من كل هذا النقاش ؟ لماذا لا يتم البحث والتباحث حول هذه الحلقة المفقودة ؟ الإجابة جاءت في مداخلة قيمة وشيقة تحت عنوان  " اصلاح المنظومة التعليمية وتحديات المؤسسة التعليمية : الهدر المدرسي" للدكتور علي موسى، وهو باحث في الشأن التربوي واستاذ  بالمعهد العالي للدراسات التطبيقية في الانسانيات بزغوان. هذه المداخلة هي عبارة عن دراسة في ظاهرة الهدر المدرسي Déperdition scolaire  التي تعتبر أخطر الظواهر التي تساهم في عدم كفاءة الأنظمة التعليمية.
وقد خلصت هذه الدراسة الى نتائج مفزعة تبين مدى خطورة الوضع الذي تمر به المنظومة التربوية في بلادنا.  وبحسب هذه الدراسة التي أنجزت على عينة من تلاميذ المرحلة الثانية من التعليم الأساسي بطريقة كوهرت (Cohorte) وهو عمل ميداني فيه تحد وصعوبة، يقصد بالهدر المدرسي "ضعف المردود الداخلي الكمي للمؤسسة التعليمية وحجم الفاقد الكمي من التلاميذ وما يسببه كل ذلك من فاقد مالي تتكفل به الدولة والعائلة".  وتبين نتائج هذه الدراسة الترابط الوثيق بين التلميذ ومحيطه الاسري والمجتمعي في علاقته بالمؤسسة التربوية. مقاييس مجتمعية مثل الفقر وصعوبة التنقل والمستوى الاقتصادي للعائلة هي عوامل جوهرية ومحددة في تحصيل النتائج المدرسية.  كما أن عوامل أخرى مثل تجربة المربي وخبرته والاكتظاظ داخل الأقسام وطبيعة ونوع المعرفة المدرسية من شأنها أن تؤثر في عملية التحصيل العلمي للتلميذ.
وبحسب هذه الدراسة التي اعتمدت شهادات متدخلين في العملية التربوية كالاساتذة والقيمين، فان حجم كلفة فوج كوهرت حسب الإحصاء الظاهري يفوق ما يقارب 7 مليارات 200 مليون من مليماتنا كما أن حجم كلفة الرسوب والتسرب والرفت الحقيقية تفوق 10 مليارات و400 مليون. 
الأرقام تبدو مفزعة لكنها واقعية وعلى ذلك فان هذه الدراسة خلصت الى ان الإصلاح التعليمي الشامل هي مصلحة ملحة لمحاصرة الهدر المدرسي الكمي والنوعي. هذه الظواهر هي بالأساس مؤشرات حقيقية وخطيرة لمستقبل التلميذ وتحصيله العلمي والدراسي. وفي غياب استراتيجية حقيقية ورؤية إصلاحية وإرادة سياسية تكون بمنأى على التجاذبات السياسية والايدولوجية لا يمكن اليوم، وبحسب ما خلص اليه جل المشاركين الذين حضروا بكثافة هذا النقش، الحديث عن تجاوز للعوائق التي تتربص بالمنظومة التربوية في بلادنا.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.