“144 قطرة من بحر”: ما اكثر الموت في تونس.. وما أعظم المسرح

 يسرى الشيخاوي-

من خشبة مسرح التياترو، من قلب العتمة يتسلل صوت زينب فرحات تسأل شابا عن المسرح و"الحرقة" ويشع وهج ابتسامتها متحدّيا الموت الذي حملها بعيدا، بصمات هذه المرأة لن تُمحى، هي كالوشم يتعتّق بمرور الزمن. 

وفيما أنت مغرق في تأمل تفاصيل محياها المريح وتصارع أسئلة عن الحياة والموت لا أجوبة لها، تتسل إجابة الشاب من بين سيل الأفكار "المسرح هو الحل"، ما أعظم المسرح الذي يعري الواقع ويسائله ويصور وجوها كثيرة للحياة بكل تناقضاتها. 

ما أعظم المسرح، وما أكثر الموت في تونس، موت يتخذ تجليات كثيرة ويتلون بألوان الحياة ويخدعك إلى أن يتسلل إلى كل تفاصيلك، أحاسيس كثيرة هي بنت الموت، اليأس، الوجع، الحرمان، الخذلان.

الموت، ترويه مسرحية "144 قطرة من بحر" للمخرج نوفل عزارة وتنسج له ملامح مختلفة تراوح بين الدراما والكوميديا السوداء وينتفي فيها الحد الفاصل بين الخشبة والواقع وتتواتر صور كثيرة كانت مركونة في خانة التناسي. 

المسرحية تشدّك إليها من عنوانها، لماذا 144 قطرة من بحر لا حصر له؟ وتتسرب إليك الإجابة على دفعات من وجع وتتجرع تفاصيلها حتى تشرق بأنفاسك ودموعك فالـ144 قطرة ليست إلا 144 روحا كانت تنشد الخلاص فخلصت إليه بوجه آخر.

هم شباب عانقوا الموت ليعبروا إلى الضفة الأخرى، ظنوا أنه سيفلتهم حينما تلوح لهم أضواء إيطاليا ولكنه لم يفعل، وتبعثرت أحلامهم على قارعة الموج وتهاطلت دموع ذويهم. 

أسئلة كثيرة تطرحها المسرحية، التي انتجتها جمعية زنوبيا بالتعاون مع مسرح التياترو، عن الهجرة غير النظامية، وعن قوارب الموت وداعميها وعن شبكات الاتجار بالبشر، وعما تفعله الدولة التونسية لتوقف هذا النزيف وعن دور الإعلام، أسئلة قد تبدو الإجابات عنها بديهية ولكن الأمر أعمق مما تلامسه الأيدي.

الكل أمام المساءلة، وأجساد الممثلين على الركح تدر السؤال وراء الآخر دون مباشرتية، أكثر من شخصية وأكثر من لهجة وأكثر من حالة نفسية وأكثر من انفعال، وأكثر من بكائية. 

الممثلون آمال العويني وملاك الزوايدي وكريم الخرشوفي وجهاد الفورتي ومراد طواهرية وثريا البوغانمي، وهبوا اجسادهم وأرواجهم إلى الخسبة لتتماهى أصواتهم وأيماءاتهم وخطواتهم وأنفاسهم وحركاتهم وسكانتهم مع النص وتنساب بسلاسة تضفي على الوجع بعدا جماليا. 

لكل شخصية قصتها وألمها ولكن كل الشخصيات تلتقي عند اليأس من هذه الأرض والأمل في حياة أخرى بعد عبور البحر، شخصيات تتحرك داخل نص مثقل بالهموم والدموع على ايقاع موسيقى محمّلة الشجن.

أما عن السينوغرافيا ففيها مزج من البساطة والعمق، ممرات خشبية وأعمدة ترفعها عن الأرض وألواح، أروقة تحاكي مسارات الشباب التونسي وضياعه بين أروقة مكاتب التشغيل بحثا عن عمل، وانفعالاته وتقلباته بين الحالات النفسية، وساعات التردد التي تسبق القرارات المصيرية.

والموسيقى، إحدى تفاصيل العرض، تنصهر مع حركات أجساد الممثلين وتتماهى مع وقع أقدامهم على الخشبة، تحملك إلى قوارب الموت حيث لا تقع الأعين على اليابسة ويحاوط الظلام الأجساد. 

ومن وقع الحديد والخشب على الركح، صنع الممثلون موسيقاهم التي بدت تعبيرة عما يخالج دواخل الشخصيات وممر عبور إلى فضاء "الحرقة"، فيما سارت الاحداث على نسق الموسيقى التسجيلية التي تنبئ المشاهد بالمرور من مشهد إلى آخر وتقحمك في حرب مع الواقع وأنت تصدّ أسئلة لا تنتهي.

وفي الأثناء لعب الضوء دوره في الأحداث وكان دليلا إلى السياق الدرامي فتهادى على الخشبة بدرجات متفاوتة تحتد وتخفت على إيقاع أحداث المسرحية التي تضاهي تجربة جسية ووجودية.

السينوغرافيا والضوء والنص وأداء الممثلين والإخراج تظافروا لتكون " 144 قطرة من بحر" مسرحية تراوح بين الفني الجمالي والنقدي.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.