31
استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تتعكر الأجواء في أوروبا، على رغم أن احتمالات فوز دونالد ترمب كانت قد اتضحت بالفعل. فخلال ليلة الثلاثاء، تجمعت نخبة المجتمع في برلين في فعالية نظمتها الأكاديمية الأميركية ومعهد آسبن لمتابعة الانتخابات.
في أحد العروض، عرض محللون من مؤسسة “يوغوف” Yougov لاستطلاعات الرأي عن مدى رغبة الناخبين الأوروبيين في فوز كامالا هاريس (باستثناء إيطاليا جورجيا ميلوني). لكن الاستطلاعات أظهرت أيضاً أنهم توقعوا فوزها بهامش كبير بنفس القدر. بناءً على ماذا بالضبط؟ الأمل نبعٌ لا ينضُب. الداء الليبرالي، الداء الأوروبي.
إذا كان هناك أي أمر حسن سينبثق من عودة ترمب، فسيكون تحطيم الأوهام الأوروبية. ففوزه الحاسم هذه المرة، بما في ذلك في نسبة الأصوات، يزيل أي شك متبقٍ حيال متانة الحركة الشعبوية العالمية التي يقودها. ولا يمكن أن يُعزى ذلك إلى الصدفة، أو التهديدات، أو التلاعب الإعلامي، أو فلاديمير بوتين – حتى لو لعبت جميعها دوراً على الهامش. وسيكون التأثير على التيار السياسي السائد في جميع أنحاء أوروبا هائلاً.
فأينما نظرت، تجد الأحزاب من يسار الوسط إلى يمين الوسط تتخبط. وفي ألمانيا الغارقة في سلسلة من الاجتماعات المتأزمة، يمكن أن ينهار الائتلاف الألماني المتشاحن المكون من ثلاثة أحزاب في الأيام المقبلة. وفي فرنسا، يتصاعد القلق تجاه مارين لوبن، التي أصبحت فرصها في الانتخابات الرئاسية المقبلة أقوى من أي وقت مضى.
وفي إسبانيا، يواجه بيدرو سانشيز انتقادات شديدة بسبب الفيضانات المدمرة، مما يزيد من صعوبة وضعه في حكومة هشة. على النقيض من ذلك، لا يواجه السير كير ستارمر في المملكة المتحدة تهديداً مباشراً، لكن المزاج العام هناك بعيد من التفاؤل.
لقد سارع قادة أوروبا إلى تهنئة ترمب والتعبير عن “صداقتهم الأوثق من أي وقت مضى”. وهو سيتعامل معهم كما يحلو له، مبتسماً أحياناً ومتجهماً أحياناً أخرى، مستغلاً هذه العلاقات لتحقيق مكاسب متبادلة. أما الشخصيتان الأقرب إلى قلب الرئيس الجديد فستكونان فيكتور أوربان في المجر وجورجيا ميلوني في إيطاليا، المؤيدان المخلصان له في القارة الأوروبية.
لطالما كان أوربان قوة مثيرة للجدل داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الـ “ناتو”. في حين اتبعت ميلوني كزعيمة لإيطاليا نهجاً متماشياً مع سياسات الدعم لأوكرانيا، مقابل السماح لها بتعزيز نفوذها في الداخل باستخدام الاستراتيجيات الشعبوية المعتادة مثل تقييد استقلال الإعلام والقضاء مع تشديد سياسة الهجرة (كانت خطتها في ألبانيا موضع تساؤل وليس انتقاد). الآن هي لن تشعر بأي قيود على أي جبهة.
وفي جميع أنحاء أوروبا وخارجها، ستزداد جرأة الشعبويين من اليمين المتطرف واليسار المتطرف، (بل وبعض الشخصيات التي تجمع بين التوجهين، مثل الألمانية الصاعدة سارة فاغنكنخت) بسبب النجاح المدوي لترمب.
حين يكونون في السلطة، سيدفعون بأجنداتهم بقوة أكبر، وحين يكونون في المعارضة سيقاتلون بشراسة أكبر من أجل السلطة، مستخدمين قواعد لعب مماثلة لترمب. سيبحثون عن المزيد من المكاسب لحزب التجمع الوطني بزعامة لوبن، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب فاغنكنخت (BSW) وحزب فوكس في إسبانيا. وفي بولندا، خاض دونالد توسك بالفعل معركة شرسة لصد عودة حزب العدالة والحرية اليميني المتطرف الذي استخدم ولايته الأخيرة لتقويض الحريات الليبرالية.
الدرس الذي تعلمه أوربان هو استغلال الفترة التي قضاها في المعارضة لزيادة تطرف برنامجه في الحكم. وقد فعل ترمب الشيء نفسه. كانت الموجة الأولى من الشعبوية في عام 2016 متقلبة وغير ناضجة في كثير من الأحيان. ولكن لا يتوقع أن تحدث مثل هذه الأخطاء هذه المرة.
وبينما يصبح التطرف هو التيار السائد الجديد، يتراجع التيار التقليدي القديم، خالياً من الثقة وغير قادر على تحديد المساحة التي يجب أن يشغلها. وفي ما يتعلق بالهجرة، يحاول هذا التيار التقليد، من ألمانيا إلى بولندا، مع فرض قيود متشددة وإغلاق الحدود المفتوحة في أوروبا بسرعة.
أقنع ترمب غالبية الأميركيين بأن جو بايدن جعلهم أسوأ حالاً بكثير. صحيح أن الكثيرين كانوا يشعرون بالضغط، ولكن نمو الاقتصاد الأميركي كان باستمرار أعلى من منافسيه الأوروبيين (الذين كانوا يعرفون سابقاً كشركاء). كونه متحدثاً بارعاً، سيستفيد ترامب من التعافي الاقتصادي ويعزو الفضل في ذلك إلى نفسه.
وفي الوقت نفسه، سيهدد الصين وجميع القادمين بتعريفات جمركية قد تتراوح بين 60 في المئة و10 أو 20 في المئة بشكل استثنائي – بغض النظر عن المستوى الذي سيتم تحديدها عليه، ستظل مؤلمة. سيهدد، ويضغط، ويُقنع. ستجد أوروبا الضعيفة والمنقسمة صعوبة في التصدي له، وستتحمل العبء الاقتصادي.
من شبه المؤكد أن ترمب سينسحب من اتفاق باريس للمناخ مرة أخرى، ولكن هذه المرة، قد يواجه مقاومة أقل. وبغض النظر عن الدمار الذي أحدثه التغير المناخي، فإن الحركة الخضراء الآن في موقف ضعيف.
أهم مجهول معروف، على حد تعبير دونالد رامسفيلد، هو أوكرانيا. ما الذي يعنيه بالضبط شعار ترمب الأسطوري “السلام في يوم واحد”؟ عبر أوروبا، تم تحوير كلمة “السلام” من قبل اليمين المتطرف لتصبح مرادفاً للقيام بما يريده بوتين.
ولكن هل ستستفيد أميركا من توسع روسيا أكثر في أوروبا، كما تفعل بنجاح في جورجيا وبنفس النجاح تقريباً في مولدوفا؟ هل يرضى ترمب أن يقاتل الجنود الكوريون الشماليون (ويحسنون تدريبهم) على الأراضي الأوروبية؟ وما الرسالة التي قد يبعث بها ذلك إلى الصين؟ ستبقى الإجابات عن هذه الأسئلة غير واضحة إلى أن يقرر ترمب فجأة.
وأياً كان ما سيفعله، فإن هذا وقت الخطر الشديد. كما أنها فرصة محتملة لأوروبا لإعادة تنظيم صفوفها. فكما قال توسك قبل ثلاثة أيام من الانتخابات الأميركية، يجب أن تكون هذه هي اللحظة التي “تنضج فيها أوروبا أخيراً وتؤمن بقوتها الذاتية. ومهما كانت النتيجة، فإن عصر التفويض الجيوسياسي قد انتهى”.
(اندبندنت عربية)