“ڨول تره نظام صوتي ” على مسرح دڨة .. موسيقى تمتد بين الرفض والمقاومة

يسرى الشيخاوي- 

في المدينة الأثرية بدڨة تغازل الريح الحجارة فتحيد عن صمتها وتداعب أغصانا مثقلة بثمار التين، وتتراقص بين المدارج التي ستؤوي جمهور المجموعة الموسيقة "ڨول تره صاوند سيستام".

في الأثناء يبدو منظمو المهرجان الدولي بدقّة كخلية نحل لا يهدأون ولا يسكنون، يعقمون كل السبل المؤدّية إلى المسرح، يتثبتون من حرارة الجمهور ويلزمونهم بارتداء الكمامات ويهدونهم سائل التعقيم أكثر من مرة قبل الالتحاق بالمدارج حيث التباعد الاجتماعي فرض لا غنى عنه.

توليفة مثيرة بين معلم أثري ضارب في القدم وموسيقى تمتد بين الرفض والمقاومة، توليفة تغريك بالانغماس في تفاصيلها من الكلمات إلى الألحان والتناغم بين المجموعة الموسيقية والجمهور وبين العازفين فيما بينهم.

مواطنون متمردون يفكرون خارج الاطر وفنانون يكفرون بكل القيود والحدود، يسخّرون الكلمات ويطوّعون الألحان ليعبروا عن تمثلاتهم للواقع، تصور موسيقي لا يخضع للتصنيف قوامه التمرّد والجنون.

وتجربة "ڨول تره صاوند سيستام"  لا تستمد فرادتها فقط من موسيقاها المتنوعة ولا من كلماتها التي تمزج بين البساطة والعمق، وإنّما أيضا من كونها حركة قائمة الذات جمعت موسيقيين يتقاسمون نفس الهاجس، موسيقيين بوصلتهم الإنسان والثورة والحرّية.

موسيقى الرفض والمقاومة.. 

لحظات من الجموح والجنون وسمت العرض الذي حضرته أجيال مختلفة، أطفال وشيب وشباب رقصوا على ايقاع موسيقى الرفض والمقاومة، وأولى ملامح الرفض تجلّت في طلب حليم اليوسفي من الجمهور أن يدنو أكثر من الركح، هي رغبة فنان ينعتق أكثر إذ التحم بجمهوره.

هو أيضا رفض تبعات فيروس كورونا، عبر عنه ونطق بلسان الكثيرين المجبرين على التباعد الاجتماعي وحجب الابتسامة بالكمامة، ولأن الكل مكره على هذه التبعات فإن الجمهور لم يلبث أن لبّى النداء وهب نحو الركح.

لحظات قد تبدو للبعض مغشاة بالفوضى ولكنّها أعمق من ذلك، هي تعبيرة عن الرغبة في التحرر من كورونا ومخلفاته ونزعة نحو تجاهله، لحظات تتبدّى فيها معاني المسؤولية إذ وقف المنظمون وقفة رجل واحد لضمان التباعد الاجتماعي.

ولأن الفن التزام لم يلبث حليم اليوسفي أن طلب من جمهوره الالتزام بالإجراءات الوقائية التي فرضتها هيئة تنظيم المهرجان حفاظا على سلامته، واختصرت الموسيقى والكلمات مسافات البعد.

على الركح انبعثت موسيقى تحاكي واقع تونسونشأ زمن موسيقي تقويمه الثورة، كلمات كتب بعضها قبل الثورة ولكنها مازالت تصف الاوضاع اليوم كأنها كتبت له، كل تلك التقلّبات التي شهدتها تونس في العشرية الأخيرة، روتها المجموعة الموسيقية التي تحمل في تفاصيلها أصوات المهمشين والمنسيين والمختلفين والرافضين والراكضين وراء الحرية.

الهوى بين المركز والهامش وبين الفرد والمجتمع وبين الحاكم والمحكوم وبين المرتمين في حضن "السيستام" والمارقين عنه وبين من باع مبادئه ومن اشترى نفسه، كلها تجلّت على الركح وانت تصغي لصوت حليم اليوسفي يصدح بكلمات تخاطب العقل قبل العاطفة.

لحظات من الجنون والجموح..

"بلاد آخر زمان"، "قولولي"، "لي تشالو"، "دادة عيشة"، "جندي"، "خوروطو"، "شكون كان يقول"، أغان ردّدها حليم اليوسفي على نسق موسيقى تماهت فيها انماط موسيقية مختلفة تستمد ثراءها من تجارب عازفين لكل قصته الخاصة مع الآلة الموسيقية التي ترافقه على الركح فيروي من خلالها هواجسه وآماله.

على الركح ينتفض العازفون، يرقصون ضد الواقع والآلام والهموم والفراق ويعلون الإيقاعات الصاخبة فيراودون الجمهور الذي يتمايل منتشيا بانتاجات موسيقية نجحت في أن ن تصنع لنفسها قاعدة جماهيرية ذات تلوينات مختلفة.

وفيما الجمهور يرقص على إيقاع تفكيره في المستقبل وتمحصه في الحاضر واستعادته الماضي والألحان الصاخبة تزداد صخبا، تنقطع الأضواء على كامل المدينة ولكن الموسيقى لا تسكت.

لحظات من الجنون والجموح يشهدها مسرح دقّة يتعالى فيها صوت الإيقاعات وآلات النفخ، لتتماهى الموسيقى مع تصفيق الجمهور وهتافاتهم ورقصهم، عدد محدود ولكن حماستهم بلا حد.

هي فلسفة الرفض والمقاومة التي تتبناها الفرقة الموسيقية تتجلّى مرة أخرى على الركح، إذ لم يستسلم الموسيقيون لانقطاع الضوء ورابطوا بالركح وأنارت ألحانهم الفضاء وغازلت ألق النجوم التي زينت سماء دڨة.

حوارات بين الموسيقيين والجمهور، وبين الموسيقيين فيما بينهم، وبين كل موسيقي وآلته تنصهر كلّها في محاولة لخلق "سيستام" لغته الموسيقى، لغة تجانب كل الأطر والخانات والتصنيفات.

"ڨول تره صاوند سيستام".. أكثر من مجموعة موسيقية

 والمجموعة الموسيقية التي عرفت مسيرتها انقطاعين، التأم شملها في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج الموسيقية في دورتها السابقة، لتتالى العروض وتثبت في كل مرة أن "ڨول تره صاوند سيستام" أكثر من مجموعة موسيقية، هي فكرة وحركة، وفق حديث اثنين من مؤسسيها الاوائل وسام زيادي ومالك "باكو".

وعن غياب المجموعة عن الساحة الموسيقية يقولان إنه عائد إلى انغماس بعض الأعضاء في مشاغل الحياة ولكنهما يؤكّدان أن الفكرة التي قامت عليها المجموعة تظل ساكنة فيهم.

وفلسفة تأسيس المجموعة، وفق قولهما، تقوم على التفكير خارج الأطر وعلى الحلم وعلى قول ما يعجز الآخر عن قوله وعلى محاكاة الإنسان في كل انفعالاته وفي مساراته وتوجهاته المختلفة.

وعند هذه الفلسفة يلتقي موسيقيو المجموعة فتنشأ بينهم كيمياء تعكس طاقة توشّح أصواتهم وتشع في أعينهم وتنساب من بين أناملهم، طاقة تتسرب إلى الجمهور فيستسلم لألحانهم النابعة من قلوبهم.

على الركح، يشبه ترومبون محمود عجابي الأنين حينا والصرخات أحيانا ويحاكي أنفاس الثورة كل حين، ويترجم باص قيس الفني زخم الاحتجاج وصدى الهتافات، ويروي غيتارات حليم اليوسفي ومراد مجول وشهاب بالأكحل  قصص حب لم تكتمل ونبض ثورة مازالت حبلى بالأمل، وتزين كمنجة وسام الزيادي الركح بشاعرية ورومانسية تقطع مع سواد قد يكتنف الواقع، ويحاكي ساكسفون جوهانس آهات المظلومين والمهمّشين.

وفي ترومبيت محمد بن سعيد  ستكن الحرية والرفض والرغبة في التغيير، مشاعر كثيرة وتعبيرات مختلفة خطّها أيضا خليل هرماسي ومحمد أمين خالدي وطه نوري  حينما توحدوا مع الكلافيي والدرامز والإيقاعات.

زنوس حاضرون رغم الغياب..

"ظهورنا للجمهور هوعمليّا نهاية التجربة." بهذه الكلمات أجابت مجموعة "زنوس" عن سؤال حقائق أون لاين عن إمكانية الظهور أمام الجمهور، وهي المجموعة التي تستتر بالموسيقى والكلمات وتخفي هوية الثلاثي الذي يكونها "حليمة" و"حمة" و"جابر"، تخفّ ليسلموا من شر البوليس والمأدلجين وحراس الأخلاق والناطقين باسم الرب.

والثلاثي الذي يخاطب جمهوره من خلال موسيقى ﭘانك روك تونسي، زهدوا عن الوجود المادي ولكنهم كانوا حاضرين على ركح مسرح دڨة عبر القميص الذي يرتديه حليم اليوسفي ويحمل شعار " زنوس".

وعن هذه الحركة التي تحمل الكثير من المعاني والرسائل، يقول حليم اليوسفي لحقائق أون لاين إنه من محبّي مجموعة " زنوس" وإن منسوب حبه لهم زاد بعد استعادة أغنية "خوروطو".

ولم يخف اليوسفي إعجابه بفلسفة المجموعة وبتعبيراتها الفنية عن الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد، وهو أيضا يبدي تفهما لفكرة تخفيهم على اعتبار أن الطريق الذي سلكوه يمكن أن يجلب لهم الكثير من الإزعاج  ويجعلهم هدفا لمن يهوون قتل الأحلام.

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.