يوم في السجن المدني بالمسعدين.. سينما وحرية وأشياء أخرى

 يسرى الشيخاوي- 

بناية بيضاء حيطانها عالية، أسيجة وكلب حراسة يرابط امام باب مغلق، سكون صاخب يزينه وقع أقدام أعوان السجون والإصلاح على الأرض ونباح متقطّع، هي المشهدية الأولى في السجن المدني بالمسعدين حيث يقضي نساء ورجال عقوباتهم السالبة للحرية.

وأنت تبعثر نظراتك في محيط السجن، يتسلّل إليك صليل باب حديدي لا فتحات فيه، تتأمّل تفاصيله وتغرق فيها حتّى يُخيّل إليك أن الهواء انقطع من حولك، تشعر بأن صدرك ضيق حرج ويلازم ذلك الإحساس داخل غرفة لا يتسلل إليها الضوء لبث فيها ضيوف السجن بعض دقائق لإجراءات أمنية.

وفيما يتثبّت الأعوان من هويّتك تشدّك صور بألوان الحياة تتجاوز دلالاتها أسوار السجن، صور حائطية التي رسمتها أنامل المودعين في السجن، بثوا فيها هواجسهم وأقاموا عوالمهم المتخيلة وعروا ذواتهم الحالمة.

للحرية وجوه كثيرة.. 

أيام قرطاج السينمائية في السجون التي تنظم بالشركة بين المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب والإدارة العامة للسجون والإصلاح وإدارة أيام قرطاج السبنمائية، مثلت فرصة الصحفيين لاكتشاف وجه آخر للمساجين، بعيدا عن التقييمات والأحكام.

وهي أيضا فسحة للسجينات والسجناء ومتنفسا كسروا به رتابة السجن، إذ وقعت اعينهم على وجوه جديدة بادلوها النظرات والابتسامات واجتمعوا معهم في ذات المكان وفي ذات الزمان خارج أسوار السجن أمام شاشة تسلّلت منها موسيقى تدعو إلى الحياة وإن كان يغشاها بعض الشجن، إنّها بداية فيلم " لماّ بنتولد" للمخرج المصري ثامر عزّت.

وفي سجن المسعدين تتخذ الحرّية وجوها كثيرا، يتجلّى بعضها في صور ولوحات يخطّ بها النزلاء رحلتهم خارج الأسوار، وفي التمارين المسرحية التي تهرع إليها السجينات وفي مشاهدة فيلم يحرّرهم من الجدران التي تكتم على أنفاسهم.

ورحلة الحرّية الظرفية تنطلق من فلسفة انتهجتها الإدارة العامة للسجون والإصلاح عموما والسجن المدني بالمسعدين خصوصا إذ يقول نائب مديره ابراهيم عمري إن المؤسسة السجنية تسعى إلى الانفتاح على العالم الخارجي من خلال أيام قرطاج السينمائية في السجون، وذلك بهدف إعادة تأهيل النزلاء.

والعقوبة السالبة للحريّة لا تعني بأي شكل من الأشكال حرمان النزيل من حقه في الثقافة لذلك آلت إدارة سجن المسعدين على نفسها أن تحضر السينما إليهم حيث هم وتتيح لهم فرصة التحرر من أسوار السجن، وفق قول عمري.

ومن جهته، يؤكّد المستشار بالإدارة العامة للسجون والإصلاح فتحي بن عثمان أهمية حضور الفعل الثقافي في الوحدات السجنية والإصلاحية لما لها من قدرة على التغيير وتجاوز الراهن بما يحتويه من أخطاء، وهو ما ذهب إليه ممثل المنظّمة العالمية لمناهضة التعذيب أمان الله الأسود الذي يعتبر أن الثقافة حق أساسي للمساجين وإن كانوا مسلوبي الحرّية.

وعرض الأفلام في السجون لا يقتصر على أيام قرطاج السينمائية بل يمتد على كامل السنة، وتتظافر فيه جهود عدّة أطراف، منها على سبيل الذكري لا الحصر المخرج السينمائي أشرف لعمار الذي يكرّس وقته لترسيخ هذه البادرة في السجون، وسنة تسعة عشر وألفين عُرض سبعون فيلما في وحدات سجنية مختلفة لفائدة ثمانية آلاف وثمانمائة وستة وسبعين سجينا.

"لما بنتولد" .. دراما خارج الصندوق

فيما يقتنص السجناء والسجينات لحظات من الحرية من خلال شاشة السينما، يكتشف فريق عمل فيلم "لما بنتولد" تجربة عرض فيلم في الوحدة السجنية ففي مصر لم تطرح المهرجانات السينمائية هذه المسألة بعد، إذ يقول مخرج الفيلم ثامر عزّت إنّ هذه التجربة متفرّدة بالنسبة له كصانع السينما وإنّه مع حق الجميع في الثقافة.

والفيلم من بطولة أمير عيد، وعمرو عابد، وبسنت شوقي، وابتهال الصريطي، وسلمى حسن، ومحمد حاتم، ودانا حمدان، وضيوف الشرف حنان سليمان، سامح الصريطي، ومن تأليف السيناريست نادين شمس التي رحلت عن هذا العالم قبل أن يرى الفيلم النور فكان إهداء لروحها.

في هذا الفيلم رسائل كثيرة عن الحب والاختلاف والإيثار والتضحية والتحدّي تلقّفها النزلاء وتجلّى ذلك في النقاش الذي عقب العرض، نقاش كشف عن وعيهم وقدرتهم على التحليل الفني الذي لا يغفل التفاصيل الدقيقة بل إنّهم أسقطوا بعض الأحداث على تجاربهم.

ثلاثة قصص مختلفة عرضها المخرج بأسلوب فنّي مشوّق، الأولى عن شاب يحاول رسم معالم مسيرته الفنّية ولكنّ والده يقف حائلا دون ذلك، والثانية عن إمرأة مسيحية محبّة للحياة تقع في حب شاب مسلم لتصبح أسيرة الحيرة، والثالث لمدرب رياضة يبيع جسده ليواجه الخصاصة.

قصص قد تكون مألوفة وربّما كانت نواة لأعلام سينمائية كثيرة ولكن المخرج ثامر عزّت جمعها في دراما خارج الصندوق، دراما تقطع مع السائد والنمطي وتذهب إلى العمق الإنساني بعيدا عن السطحيّة والكليشيهات.

هي دراما غنائية رومانسية، كان الغناء خيطا جامعا فيها، دراما بنهاية مفتوحة  لم يحدّد فيها المخرج الخيارات ولم يضع نتيجة للاختبارات التي وقعت فيها الشخصيات وإن كانت مؤشرات كثيرة تحيل إلى نهاية سعيدة، ولكن الأمر ظل رهين التلميح.

وبين المشاهد الجريئة والمشاهد الشاعرية، والمأساوية لأحيانا والمضحكة، يضع الفيلم أصابع على أمراض مجتمعية أغفلتها السينما أو تعاملت معها بسطحية في أحسن الحالات ليفتح نقاشا اجتماعيا ونفسيا ودينيا يؤدّي إلى نقاش أشمل هو النقاش الإنساني.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.