القرضاوي كما بشارة ، عابر للوطنية. فلا القرضاوي بإخوانيته «وطني مصري أو قطري» بالمعنى الفكري والسياسي، ولا بشارة بقوميته «وطني من عرب 48» بالمعنى ذاته.
التحق القرضاوي بالأممية الإخوانية منذ نعومة أظفاره الفكرية والسياسية، وما زال عليها. ركب بشارة أولا عربات الأممية الشيوعية من المحطة الإسرائيلية، ثم غادرها لامتطاء القومية العربية من بوابة عرب 48، وأخيرا غادر هذا كله باستقالة منه للقنصل الإسرائيلي في القاهرة من عضوية الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) بعد ثلاث دورات له، وأيضا من العمل داخل أراضي 48، ليحتل موقع «الخبير» في قطر و«المتكلم» في فضائية «الجزيرة» إلى جوار القرضاوي.
القرضاوي وبشارة، بما يؤمنان به ويمارسانه، أو ينتميان إليه ويعبران عنه، من بقايا ثقافة الحرب الباردة واللاسلم واللاحرب، التي نشأت كأساس فكري سياسي لاتفاقيات «سايكس- بيكو» الاستعمارية المفروضة بقوى الهيمنة الدولية وتكرست كواقع أخير، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. وشملت تقسيمات جغرافية ونظما سياسية- اجتماعية بمناطق شتى من العالم في القلب منها المنطقة العربية.
القومية العربية والقومية الإيرانية
شهدت الحرب العالمية الأولي نهاية الإمبراطوريات الألمانية والروسية والعثمانية والنمساوية- المجرية، وتشكيل دول جديدة في أوروبا والشرق الأوسط، وتم نقل المستعمرات الألمانية ومناطق الإمبراطورية العثمانية إلى القوى الأخرى خصوصا بريطانيا وفرنسا تحت الهيمنة الأميركية.
وضعت الحرب العالمية الأولى أيضا بذرة الحركات الآيديولوجية العابرة للوطنية كالشيوعية والقومية والإخوانية وإلى جانبها صراعات المستقبل في الحرب العالمية الثانية فالحرب الباردة.
باختصار شكلت الحرب العالمية الأولى البداية لعالم سايكس- بيكو، فقد كانت المؤجج للثورة البلشفية الشيوعية في روسيا، التي أحدثت تغيرا في السياسة الصينية والكوبية، ومهدت الطريق للحرب الباردة بين العملاقين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق، كما صدر وعد بلفور، الذي يقضي بقيام وطن قومي لليهود على أرض فلسطين العربية، فأقيمت إسرائيل رسميا عام 1948، وفي غضون ذلك سادت القومية في مناطق كثيرة من العالم العربي، وبرزت القومية الإيرانية، وقام الإخوان في مصر عام 1928، فتم استيعابهم في الحرب الباردة.
الحرب الباردة أميركية الأصل وثقافة اللاسلم واللاحرب أيضا، وتعني ببساطه اصطناع خصم أو دفعه للخصومة، وأن يدفع هذا الخصم تكاليف الحرب دون أن يحارب خارجيا أو يتم فرض الحرب في داخله.
فرضت أميركا الحرب الباردة بثقافتها على العالم منذ عام 1945. ولاحقا أفلح الأوروبيون والصينيون والروس واليابانيون في التخلص منها، إلا العرب فقد بقي يتم في داخلهم إعادة إنتاج وتمجيد مكونات وأوضاع وزعامات وأدوات ترسيخ هذه الثقافة، فبقي أغلب العرب يدفع تكاليف الحرب دون حرب، حتى تم فرض الحرب الداخلية عليهم ببقايا الحرب الباردة وأبناء وأنجال وأحفاد هذه الثقافة وفي مقدمتهم القرضاوي وبشارة.
ربما لا يصدق القرضاوي وبشارة أنهما معا من نماذج بقايا الحرب الباردة وثقافة اللاسلم واللاحرب، وقد لا يصدق آخرون من نجوم هذه الثقافة. إذ لا يسأل القرضاوي نفسه بعمق فيجيبها:
– كيف تنتج أمميته الإخوانية خاصة والدينية عموما تقسيما واضطرابا وتفتيتا في الواقع السياسي- الاجتماعي بالمجتمعات العربية والمسلمة قبل غيرها وكما يجري مثالا في السودان وفلسطين المحتلة؟
– وكيف تكون أمميته الإخوانية بذاتها رديفا للاحتلال وقوى الهيمنة الدولية في الواقع السياسي- الاجتماعي بالمجتمعات العربية والمسلمة، كما يجري منذ نهايات عام 2010 وحتى الآن؟
– ثم كيف يكون هو بذاته داعيا لاستدعاء قوى الهيمنة الأجنبية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية إلى المجتمعات العربية والمسلمة، مع تقديمه خدمة المسوغات والمبررات «الفقهية» اللازمة لجلبها؟
كذلك لا يفعل بشارة، فيسأل ويجيب:
– كيف تنتج «قوميته» من ناحية دعوة ل«دولة إسرائيلية- فلسطينية ثنائية القومية» داخل إسرائيل. بينما يناهض بذاته من ناحية أخرى التيار الرئيسي في الحركة الوطنية الفلسطينية الداعم لقيام دوله فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 67؟
– كيف تدعم «قوميته» انفصالا أو تقسيما داخل الأراضي المحتلة عام 67، بالإضافة إلى تمزيق الكيان السياسي الوطني، الذي نشأ على الأرض الفلسطينية لأول مرة في التاريخ إلى سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال الإسرائيلي؟
– كيف تقيم «قوميته» اضطرابا داخل أوساط فلسطينيي 48، ومن بعد فوضى وتقاتل داخل المجتمعات العربية عموما؟
– كيف يدعو أهله من فلسطينيي 48 إلى استمرار البقاء والصمود داخل أراضيهم في مواجهة إسرائيل، بينما يغادرها هو ويغادرهم إلى قطر، وليس إلى سوريا أو ليبيا وأي من مواقع الثورات، التي يدعي أنه منها ويزعم مساندتها ويقوم بخدمه التنظير لها؟
يتغنى أو يتشدق القرضاوي وبشارة وبقية أبناء وتنظيمات الحرب الباردة وبقايا ثقافة اللاسلم واللاحرب بأنهم الأقدر على إنجاز التحرر والتنمية، وقد أضافوا أخيرا الديمقراطية أيضا مع أنه لا أصل لها في أفكارهم وممارساتهم ولا تجاربهم، لكنهم ما جلبوا إلا الاحتلال أو كرسوه، وقد أضافوا إلية تقسيم الأوطان تحت الاحتلال أو لصالح الاحتلال لا فرق. فهم ممن يزعمون الحرب ويرفضون السلم. بينما وظيفتهم الأساسية هي التصارع الداخلي، فإسقاط النظام مقدم عندهم على تحرير الأوطان. وتحرير فلسطين يبدأ عندهم من السيطرة على العواصم العربية الرئيسية أولا، وليس السيطرة على الأرض الفلسطينية المحتلة أولا وأخيرا.
الحاصل أن بقايا الحرب الباردة بشخوصهم وتنظيماتهم ظلوا ويظلون أكبر عائق أمام التحرر والتنمية والديمقراطية. وفوق هذا كله أغرقوا المنطقة العربية برمتها في مستنقعات الفوضى.
الأممية الإخوانية
لا الدوحة هانوي الفيتنامية، ولا هي ستالينغراد الروسية. ولا القرضاوي وبشارة من مغاوير القتال، بل من مغاوير الكلام وتروس الدعاية والتعبئة بتنظيرات فوضى ثقافة اللاسلم واللاحرب الموجهة عبر الفضاء . ربما لذلك تبدو ثورات القرضاوي- بشارة الفضائية نموذجا واضحا للحرب الموجهة، التي تتم إدارتها بوسائل الفوضى، أو الفوضى، التي تعد امتدادا للحرب.
على أرض الواقع تظل الأممية الإخوانية، التي يعبر عنها القرضاوي ، هي صاحبة الدور المحلي الرئيسي في تدوير عجلة الحرب الطائرة بوسائل الفوضى داخل المنطقة العربية، وفي بدايتها جذب الإخوان و من ثم جذب مختلف التيارات القومية واليسارية والوطنية العامة إلى جانبهم. إنما سرعان ما عادت هذه التيارات الأخيرة أدراجها تحت وقع نزعات الاستئثار والإقصاء الإخواني المضاد لها، وانكشاف أبعاد الأدوار والأطماع الأجنبية في هدم وتمزيق الدول والمجتمعات العربية والسيطرة عليها، فلم يشذ عن هذه القاعدة بالطبع سوى بشارة وبعض الفرق الصغيرة وتحالفات الإخوان الأجنبية إقليميا ودوليا. ربما بوصفها صاحبة المصلحة الأساسية.
حرب الفوضى
اندلعت حرب الفوضى داخل المنطقة العربية بتفجيرات اجتماعية داخلية هائلة بداية من نهايات عام 2010، وبتعبئة وتوجيه وتحريض غير مسبوق على القتل وسفك الدماء . فتم إسقاط حكام وجرى ذبح آخرين بوحشية منقطعة النظير. إنما سرعان ما انكشفت الانفجارات على فوضى عارمة، انتقلت معها بلدان الثورة أو الحرب من أوضاع الدولة إلى اللادولة. كما صارت تعج بمختلف أنواع فوضى الانقسامات والصراعات الداخلية، وسيطرة العصابات المسلحة وأمراء الفوضى، ومنها من سقط في مستنقع الحرب الأهلية ومنها من ينتظر أو تهدده أشباحها بدعوات الانفصال داخله.
الشاهد أن نتائج فوضى بقايا الحرب الباردة جاءت فورية فقد انهار داخليا كل ما حول إسرائيل أو تضاءلت قوته. بينما بقيت إسرائيل على قوتها. إن لم تكن قد ازدادت قوة. إضافة لذلك أصبحت المنطقة العربية برمتها ساحة مفتوحة لأطماع أجنبية إقليمية ودولية. وصارت مهددة بتقسيمات جغرافية وسياسية- اجتماعية جديدة تحت الهيمنة الأجنبية من جانب أطراف إقليمية (إسرائيل- إيران- تركيا)، وأخرى دولية (الولايات المتحدة الأميركية- بعض القوى الأوروبية الرئيسية).
وكما هو أصل الطبع الذي يغلب التطبع جرى ويجري تسويغ هذا كله بتبريرات موظفة خصيصا من القرضاوي وبشارة والإخوان وغيرهم من بقايا الحرب الباردة، التي لم تجد حرجا في طلب الاستدعاء الصريح للقوات الأميركية عند الحاجة أو الاستقواء بأميركا وبقية القوى الأجنبية الإقليمية والدولية واستخدام منظمات العنف والإرهاب كما هو الحال في مواجهة تحدي نجاح الثورة الوطنية المصرية في 30 يونيو (حزيران/جوان ) الماضي وبروزها كحائط صد مضاد لحرب الفوضى الجارية.
أترك لك عزيزي القارئ في ما تبقى لنا من مساحة ولك من وقت أن تضع بنفسك القرضاوي وبشارة وإخوانهما من بقايا الحرب الباردة في أي وضع تشاء أو يليق بهم أو تعاملهم بما تراه أو يستحقونه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *نشر المقال بتاريخ 14 نوفمبر في مجلة المجلة تحت عنوان "القرضاوي و بشارة: بقايا الحرب الباردة التي تقاتل بالفوضى". ** طارق حسن كاتب ومحلل سياسي – رئيس تحرير «الأهرام المسائي» ومدير مكتب «الأهرام» في غزة سابقا .