يا راغبا في رؤية الجنة .. “بلاريجيا” قبلتك

يسرى الشيخاوي-
 
تقفز في ذهننا التساؤلات عن عالم غامض تتواتر عنها الحكايا العذبة ويقف بيننا وبين الحقيقة حجاب يغذّيه الخيال، وويتولّد عنه سيل من الارتباك والإلغاز كلّما تفكّرنا في الجنّة ذلك الفضاء السرمدي المفتوح على كل الاحتمالات.
وأنت تفكّر في عالم غامض وجميل يحوي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، تكسر أبواب المنطق وتوغل في متاهات التصوّر، وتتهاطل صور العيون والانهار والاعناب وكل جميل تعجز العين عن الوقوع عليه في الأرض، ولكن حدود الخيال تنقطع عند الطريق المؤدّية إلى المعلم الأثري ببلاريجيا.
 على جنبات السبيل المؤدّية إلى واحد من أهم المعالم الأثرية في منطقة الشمال الغربي وفي البلاد التونسية، تتناثر الأراضي الخضراء وكأنّها قطع من الجنّة وتتبعثر عليها شقائق النعمان الحمراء والصفراء وكأنّها قلادة على عنق حسناء بهية، ترافقك الخضرة المقتبسة من النعيم حتّى تبلغ المعلم الأثري الشاهد على مرور حضارات متعاقبة.
في المدخل الرئيسي، تطالعك رايتان تتراقصان على وقع النسيم الربيعي، وتعلنان بداية جولة في تاريخ وطن ضارب في القدم، وطن تعاقبت عليه الحضارات والثقافات حتى بات مهدا للتعايش والتسامح والإيمان بالاختلاف وسيلة للثراء.
وفيما الرايتان تتعانقان كلّما تسارعت حركة النسيم، تغريك بقايا المدينة الملكية تحكي أسرارها وأسرار الحضارات المتعاقبة عليها، قرطاجية ورومانية ونوميدية، وتمضي نحوها لتستنشق عبق التاريخ المختلط برائحة الربيع الذي يقيم عرسه في قلب المدينة الأثرية.
"بولاريجيا" أي المدينة الملكية، تتجوّل فيها فتغمرك روعة المعمار الذي مازال صمدا امام العوامل المناخية الصعبة، معمار شامخ صامد في وجه الرياح والامطار والعواصف، ومتطلّع إلى سلسلة جبال خمير التي تلوح بخضرتها من بعيد فتزيد المدينة الأثرية بهاء.
وفي هذا المكان، تداعب النسمات الحجارة الصمّاء فتخرجها عن صمتها، وتجعلك تتأمّل في تفاصيلها فتروي لك قصص مرور الرومان من خلال المجسّمات والفسيفساء التي مازالت تقاوم السنين والمناخ، وأنت تتأمّل في قطع الفسيفساء التي مازالت متشبّثة بألوانها وأشكالها رغم كثرة الدائسين على ثناياها، لتحكي قصصا عن معيش الأسلاف على أرض "بولاريجيا".
وأنت تجوب الموقع الأثري تغرق في حالة من النشوة والذهول أمام براعة التجسيم والتصميم والنحت في الحجارة، وتتساءل عن قدرة هذه الآثار على مقاومة الزمن حفظ التاريخ بين تفاصيلها لتظلّ شاهدة على قرون من الحياة، مزيج ساحر بين ثقافات وحاضرات تختنه حجارة المكان.
وزائر موقع بلاّريجيا يشاهد مواجل الماء في عدّة مواضع والمسرح والساحة العامة والكابيتول والسوق وان امحت بعض معالمها، وهو لن ينتبه إلى بعض التفاصيل التي أضاعتها السنين وشاركت السلطات في ضياعها تهميشا ولا مبالاة فقطعا سيلهيه خرير المياه المنساب ويغريه بلمسه.
وفي قلب المدينة الأثرية، تفاصيل من الجنّة وإجابة عن بعض الأسئلة العالقة في هذا الشأن، سمفونية من الألوان تغزو الأعشاب وتخلق من التناغم بينها خرير المياه العذبة موسيقى ساحرة، وتخوض تجربة حسّية جمالية تتظافر فيها كل العناصر لتجعل المكان جنّة على وجه الأرض.
هنا، في بلاريجيا، كل شيء حي، يبعث فيه الماء المنساب من المواجل الروح كلّما حاول الموت التسلل إليه، هنا للأزهار جمال استثنائي وعبق خاص بها وحدها، هنا الأعشاب الخضراء لا تشبه إلا نفسها، هنا كل التفاصيل مترابطة ولكنّها متمايزة في ذات الآن، هنا تشعر بأن الطبيعة أمّك الاولى وتسترخي بين ذراعيها وأنت تتفكّر في أسرار التاريخ المحفوظ في الحجارة والنقوش المترامية على تخوم الروض.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.