“ياقوتة” ليلى طوبال.. صوت المرأة الممتد من الوجع إلى الثورة

 يسرى الشيخاوي- 

ليس هيّنا أن تكوني إمرأة في مجتمع ذكوري سلطوي، فمع صرختك الأولى في وجه الحياة تتهاطل الوصايا من حولك ويدسونها في يومك ويسقونك إياها حتى تتغلغل داخلك وتطبق على أنفاسك.

مضن جدّا، أن تكوني إمرأة في مجتمع يسطّر مشيتك وطريقتك وقوفك وجلوسك وأسلوب بكائك وضحكك، منذ أن تتبدى علامات وعيك يتلون عليك قواعد المشي "السليم، لا تترنحي ولا تتمايلي ولا تحرّكي خصركي كثيرا كي لا توقظي رغبات كامنة.

وعندما تقفين أيّاك ان تبرزي نهديك ولا مؤخرتك، وحاولي ما استطعت إليه سبيلا أن تمسي "تضاريسك" التي لم تخلقيه لكنّك جبلت على أن تعيشي مثقلة بتمثلات الآخر لها، وإن كان لابد من الضحك اكتمي الصوت ولا تنفلتي في ذروته كب لا يصفوك بالعاهرة.

وإن غالبك دمعك ابتلعيه في صمت، فعيب أن يعلو صوتك في حضرة "الرجال"، وإن أردت الجلوس في حضرتهم ضمّي ركبتيك إلى بعضهم البعض وإياك أن تتركي بينهما منفذا.

أطر كثيرة متشابكة ومتشعبة شيّدها الناطقون باسم المجتمع أحيانا وباسم الرب كل حين حول جسد المرأة، ووصايا كثيرة مبعثرة ومتناثرة تتعثر فيها المرأة حيثما ولت وجهها، أطر ووصايا كثيرة بعثرتها الفنانة ليلى طوبال على ركح التياترو في مونودراما "ياقوتة". 

و"ياقوتة" من إنتاج "الفن ومقاومة"، وفي مشاهدها تعري طوبال واقع المرأة في تونس وفي العالم العربي وتضع أصابعها على مكامن الداء وتفتح الجروح التي لا تنتدمل وتذرّ عليها ملحا. 

بين التلميح والتصريح راوح نص المسرحية الذي شحنته بأحاسيس متناقضة وهي تتأرجح بين الواقع والمتخيل لتلتبس انفعالاتك وأنت تلاحق وقع خطواتها على الخشبة فتشرق بابتسامتك وتبتسم دمعا. 

وعلى الركح تظافرت عناصر السينوغرافيا لتحيلك إلى كل الأطر التي ترتفع لتحاوط جسد المرأة، وآوت ليلة طوبال داخلها كل النساء وصدحت بصوت يمتدّ من الوجع إلى الثورة، صوت عمدته بالحرية ورفض الوصايا.

ومن فاتحته إلى خاتمته، تقحمك المسرحية في حالة عاطفية وذهنية وتدفعك إلى طرح أسئلة عن الحياة والموت والمجتمع والعادات والتقاليد والقوانين وعن قدر المرأة الذي يعبر بها من سجن إلى آخر.

وقبل أن تطالعك الفنانة ليلى طوبال على الركح، ترافقك لينا بن مهني وزينب فرحات بنظراتهما العصية على التفسير وتتحسس حضورهما في "ياقوتة"، وتتجلى بعض من مسيرتهن في صوت ليلى طوبال حينما تصرخ في وجه السجان وتكسر بكلماتها أقفال السجن. 

وإن كانت المسرحية لا تخلو من بعض الكليشيهات ومن المباشرتية، فإنها خاضت في تابوهات وموضوعات مسكوت عنها على غرار زنا المحارم والاغتصاب الزوجي وغيرها من الظواهر التي تزيد من عذابات المرأة.

و"ياقوتة" ليلى طوبال، ثمرة ليلة حمراء، نتاج لقاء صدفة بين بويضة وحيوان منوي، لم تختر طريقة مجيئها إلى العالم لكنها مضطرة لأن تتحمل كلمات الآخرين الموجعة ونظراتهم المسمومة، ورغم كل الوحل من حولها تظل "ياقوتة". 

في الواقع، "ياقوتة" محاولة فنّية لتجاوز كل العقد التي راكمها المجتمع داخل الأفراد، عقد تدفعه إلى إطلاق وصوم ونعوت مؤذية على إنسان آخر لمجرّد أن مجيئه إلى هذا العالم مارق عن خانة المألوف. 

وإن تعرضت المرأة إلى الوصم، وإلى الاغتصاب، وإلى العنف بكل أشكاله، وإن حاصرها المجتمع من كل صوب، وإن انهالت عليها السياط، وإن امتدت الأيادي لتكسر شموخها، تظل "ياقوتة" مشعة ووهاجة يتنفض عنها يوما أثر سطوة العابرين على حياتها.

وبين مشاهد المسرحية تظهر تسجيلات صوتية، منها تسجيلات لكل من جيزال حليمي ورجاء بن عمار وزينب فرحات وتسجيلات  لنساء بهويات مجهولة، نساء يواجهن الظلم بوجوهه الكثيرة، هي حالات تلتقطها ليلى طوبال لتروي في كل مرة معاناة إمرأة، وتتعدد الروايات على الركح ولا تنتهي الأوجاع. 

ومن حكاية إلى أخرى، تتقلب بمرونة وانسيابية متحدّية في كل مرة وجع الفقد وهي التي لم تستوعب بعد رحيل والدها، وكل ما استبدت بها أوجاع المرأة وأوجاع الوطن أشعلت شمعة لتطرد الظلامية والسوداوية التي تتحين الفرص لتنقض على ما بقي من أمل. 

وفي عرضها الأوّل، تصدح "ياقوتة" بصوت النساء وبصوت تونس المؤنثة وتغوص في مواضيع مسكوت عنها بأسلوب تتماهى فيه الدراما والكوميديا لتشرّح واقعا نخره سوس الزيف والوهم على كل المستويات. 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.