يسرى الشيخاوي-
في الطريق إلى الوحدة السجنية بأوذنة حيث يتم تأهيل المودعين بالسجون والإعداد للإفراج عنهم، تطالعك الآثار المترامية على جنبات الطريق فتخفف من وطأة الإحساس بالاختناق الذي يستبد بك كلما وليت وجهك شطر وحدة سجنية أو إصلاحية لتشارك النزلاء بعضا من الحلم والحرية.
هنا، أيضا، بناية بيضاء حيطانها عالية، أسيجة وكلب حراسة يرابط امام باب مغلق، سكون صاخب يزينه وقع أقدام أعوان السجون والإصلاح على الأرض ونباح غير مسموع، هي المشهدية الأولى في سجن أوذنة.
هو افتتاح أيام قرطاج السينمائية في السجون في دورتها السابعة، هذه التظاهرة التي تنتظم بالشراكة بين المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب والإدارة العامة للسجون والإصلاح وإدارة أيام قرطاج السبنمائية، وتمثل فرصة للصحفيين لاكتشاف وجه آخر للمودعين بعيدا عن التقييمات والأحكام المسبقة.
كعادتها تمثل هذه التظاهرة متنفسا للمودعين يكسرون به رتابة السجن، إذ تصافح أعينهم وجوها جديدة يبادلونها النظرات والابتسامات ويتقاسمون معهم مجالا رمزيا ينتفي فيه الزمان والمكان وتتلاشى فيه أسوار السجن.
هذه المرة، افتتاح التظاهرة توشح بالمحبة التي حملها الفنان الملتزم ياسر جرادي في ثنايا صوته وفي نوتات غيتارته التي أدناها من صدره وهو يبث هواجسه وأحلامه وأوجاعه على شاكلة كلمات تخترق القلوب دون إيذان .
حكايات مطرزة بالأمل رغم كم الوجع الذي يرشح منه رواها ياسر جرادي وأصغى لها المودعون بكل ما أوتوا من خشوع، وتلألأ الدمع في عيونهم ولكنهم لم يفلتوه واستمروا في تتبع الامل الساكن في كلمات ولد بعضها على أعتاب اليأس.
"شبيكي نسيتيني" و"ديما ديما" و"ما تخافيش" ثلاثة أغان صدحت بها حنجرة ياسر جرادي وتردد صداها في أرجاء الوحدة السجنية بأوذنة وفي قلوب الحاضرين وأينعت الأحلام من جديد على إيقاعها.
هي قصص نابعة من قلب ياسر جرادي، من انفعلاته ومن انكساراته وانتصاراته، هي لحظات ضعف جعل منها عناوين للأمل وهو يقارع اليأس في بلد أرادوا توشيحه بالسواد لكنه أبى إلا أن يشع بنور القلوب المحبة له، هي تونس التي نحبّها في كل حالاتها وإن كنا نحيا على الهامش.
رسائل كثيرة نثرها ياسر جرادي أمام المودعين، تبادل معهم النظرات والابتسامات الرابضة خلف الكمامات وتعانق نبض القلوب على نسق حكايات تنهل من تقلبات الحياة وتعرج على تجارب لا تمضي إلا تاركة أثرا في أصحابها وناثرة لكثير من الأمل والإصرار.
"قف على ناصية الحلم وقاتل"، عبارة للشاعر محمود درويش تستحضرها وأنت تغوص في معاني أغاني ياسر جرادي وتجول بأنظارك بين تفاعلات المودعين وأنت تلاحق الأحداث في وثائقي "كباتن الزعتري" للمخرج المصري علي العربي.
جرعات متواترة من الأمل تلقّفها المودعون الذين تابعوا الفيلم بإمعان وغاصوا في تفاصيلهم ليخوضوا إثره نقاشا محمّلا بمشاعر الامل ومشحون بالحلم والرغبة في التغيير والتمسّك بالحرية وان حجبتها الأسوار.
إلى مخيم الزعتري للاجئين في الأردن تحملنا كاميرا المخرج الذي جعل من الإنسانية بوصلته ولاحق تفاصيل قصة تخاطب العاطفة وتجعلك تنظر إلى الحرب من زاوية اخرى، زاوية لا تخلو من وجع ولكن فيها دعوة إلى الحياة وإن كنت تقف على تخوم الموت.
على امتداد ستة أعوام لاحق خطوات شابين سوريين أطردتهم الحرب من وطنهم، من مدينة درعا جنوب سوريا حلا بمخيم الزعتري حيث تتبعا أثر الخلاص واستمعا إلى صوت الأمل داخلهم.
رغم قساوة الواقع وسواد الحقيقة من حولهما حاولا النجاة وتمرّدا على تجليات الموت والقنوط وتشبثا بحلمهما بأن يسطع نجميهما في عالم كرة القدم، امتطيا صهوة المعاناة والظروف الموجعة وصار الحلم حقيقة حينما حلّت بعثة بالمخيم بغاية اختيار لاعبين لبطولة دولية.
بعيدا عن الإحصائيات والأرقام يخوض المخرج في تفاصيل حياة اللاجئين، ولا يغرق في الألم والوجع ولكنه لا يهملهما ولا يغفلهما وهما حاضران في كل زاوية وفي كل ركن، وجع يتعتق كلما تواترت الأيام في مخيم اللاجئين.
منذ البداية كانت العاطفة حاضرة في هذا العمل السينمائي، فمن أصل تسعة عشرا مخيما للاجئين اختار المخرج مخيم الزعتري الذي غازل الإنسان داخله لما لمسه فيه من أوضاع صعبة.
في المخيم نفسه شدّه إصرار "فوزي" و"محمود" على تحقيق أحلامهم التي شاهدها وهي تينع وتزهر وسط الالم، أحلام نسج منها ملامح الوثائقي المدعوم من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وخط مها حروف رسالة عنوانها "لا يأس مع الحياة".
من رحم المعاناة خلق المخرج سيلا من الامل بلغ مداه سجن أوذنه وفتح له المودعون قلوبهم وتجاوبوا معهم ونسوا للحظات من الزمن أنهم مسلوبو الحرية، وحينما تذكروا أسوار السجن نطقت ألسنتهم بكثير من التفاؤل.