يسرى الشيخاوي-
صباح كئيب، يتسلل منه البرد من كل الزوايا وخيوط الشمس لا تغازل بلور النافذة ودموع السماء تصطدم به وحزن مخيف يتسرب من بين التجاويف حاولتُ أن أقطع عليه الطريق قبل أن يملأني.
بلا غاية تُرجى مسكتُ هاتفي لأهرّبني من الأجواء الكئيبة من حولي ولم اكن أدري أنني سأتعثر بتفسير لها، ففي أول نظرة على صفحة الاستقبال تقع عيني على نبأ رحيل الفنانة القديرة السيدة نعمة.
مؤلم وموجع هذا النبأ، رحيل لم يتوقّعه أحد وإن كانت السيدة تقاوم المرض كل يوم وسط سيل من دعوات محبيّها، كيف دنوت منها أيها الموت وقد " توسمت فيك الخير" والمقربون منها يبلغوننا أنها مصرة على الحياة ولكنّك فعلتها أيها الموت.
لعلها استقبلتك مبتسمة كعادتها، ترتسم البسمة في عينيها قبل شفتيها، كيف قاومت كل تلك الرقّة أيّها الموت وفعلتها ورفعت نعمة اخرى إلى السماء وكأنك تبخس النعم على أهل الأرض.
لكنّّك أيها الموت لن تأخذ صوت نعمة الساكن في ذاكرتنا ووجداننا، ولن تأخذ أغانيها الخالدة في كل ركن من تونس، لن تأخذ الحب الذي نثرته بصوتها ولا الفرح، لن تأخذ " الليلة عيد اللية عيد " ومااحلى ايامك يا ربيع".
حزينون نحن اهل الأرض لرحيل نعمة أخرى ولكن أهل السماء سيستقبلونها بكل فرح الوجود، بطلتها الملائكية وبصوتها المعتّق الذي يروي حكايات الحب والفرح، صوت لا يموت وإن رحلت صاحبته عن هذا العالم.
هي الصوت الذي يلامس شغاف القلب، ويتسرب من حنجرتها إلى وجدان المستمع دون إيذان، هي الفنانة التي وهبها الفن سعادة روحية لأنها اخترته لإسعاد الناس لا لجمع المال، كما قالت ذات حوار مع جريدة "الصباح".
فنانة لم تلاحق الشهرة بل كانت تلاحق الفرح في عيون المستمعين إليها لتشحن وجدانها بالنشوة، ولأنها حريصة على إسعاد جمهورها كانت تقتفي أثر المعنى والموقف في أغانيها وتختار مضامينا إنسانية ذات رسائل واضحة، وهو ما جعل أغانميها خالدة في الذاكرة الفنية التونسية.
هي ابنه أزمور التي يعانق صوتها السماء، هي "زين على زين " يترسم الحب والشغف في نظراتها، هي الناعمة الرقيقة، هي التي تحمل في ثنايا قلبها الكثير من "شرع الحب ".
في أغانيها تبث روحها وعاطفتها حتى نسجت اسلوبا فنيا لفت إليها الأنظار، أسلوب فني لا يشبه إلا مسيرة فنانة رسمت أولى ملامح مسيرتها في سن الحادية عشر بأغان محملة بالذكريات، ومن لا يحمل ذكرى عن " صالحة" و"مكحول أنظاره".
في الأفراح العائلية كانت تطرب آذان الحضور بصوتها العذب الشجي قبل أن تغني لأول مرة أمام جمهور من خارج محيطها في حفلة خيرية لصالح جمعية المكفوفين، إلى جانب المطربة "علية".
وبدخولها إلى المعهد الرشيدي، صارت مطربة في الفرقة الرشيدية وهناك منح صالح المهدي "حليمة الشيخ" بـ"نعمة" ولحن لها أغان عاطفية تتماهى مع صوتها وإحساسها الذي لا يعترف بحدود، من بينها "يا ناس ماكسح قلبو" و"الدنيا هانية" و"الليلة اه ياليل".
وألحان خميس ترنان كانت حاضرة في المسيرة الفنية للسيدة نعمة من خلال أغاني "ماحلاها كلمة في فمي" و"شرع الحب" و"غني يا عصفور"، اغان تظافرت فيها الكلمات والألحان والأداء فجعلت منها مرجعا في الموسيقى التونسية.
وكل أسبوعين كانت الإذاعة التونسية تبثّ حفلات مباشرة للفرقة الرشيدية، قبل ان تدخلها رسميا سنة ثمانية وخمسين وتسعمائة وألف مطربة رسمية ضمن المجموعة الصوتية التي تضم "صليحة" و"علية" و"نادية حسين"، وتعدّت شهرتها حدود الوطن إلى الجزائر والمغرب وليبيا وفرنسا وغنت في حفلات بهذه البلدان.
في مهرجان انتخاب ملكة جمال العرب ببيروت وفي مهرجان ألفية القاهرة غنت الفنانة التي تلوّن رصيدها الطربي ولامست ألحانه أنماطا موسيقية مختلفة وهي التي تعاملت مع أشهر الملحنين العرب على غرار خميس ترنان ومحمد التريكي وصالح المهدي والشادلي أنور ومحمد رضا وسيد شطا وقدور الصرارفي وعلي شلغم وعبد الحميد ساسي، ومن ليبيا حسن العريبي وسلام قادري وكاظم نديم، ومن مصر يوسف شوقي وسيد مكاوي.
أول أغنية قدّمتها في حفل عام كانت "حبيبي يا غالي" لرضا القلعي، واليوم يودّع محبي نعمة حبيبتهم الغالية وإن رحلت إلى عالم آخر فإنها حية في أغانيها وفي كل ذكرى تركتها في الساحة الفنية.
فالنعم لا تموت، تظل ترافقنا أبدا وفي تفاصيلها بلسم وشفاء وفي أغاني "نعمة" ملجأ ساعات الحزن والفرح والحب سنظل نغنيها وإن سكتت أصواتنا.