“وردة الرمال”.. نبش في مرض التصلب العصبي المتعدد

 يسرى الشيخاوي- 

أحيانا يتجاوز المسرح الفضاء الابداعي الذي يشهد ميلاد عمل فني ليغدو مجالا للبوح والاعتراف ولتجاوز بعض العقبات التي تتعثر بها الأقدام وهي تلاحق توزانها مثلما هو الحال في مسرحية "وردة الرمال" التي طرّز المخرج المسرحي رضا بوقدّيدة تفاصيلها.

وفي فضاء كارمان لصاحبته كوثر الضاوي تشكّلت ملامح تجربة فنية وإنسانية ووجودية أبطالها خمسة ممثلين هواة جمعهم الركح ومرض التصلّب العصبي المتعدد، ومن أعراض المرض ومن تجارب المصابين به نسج المخرج تفاصيل مسرحية مات فيها الوجع على أعتاب الأمل.

أربع نساء ورجل، نفثوا تجاربهم مع المرض على الركح حيث تحررت أصواتهم وخطواتهم وأنفاسهم ونظراتهم من كل القيود ونفثوا شكواهم ومعاناتهم من الأعراض ونثروا الأمل في تفاصيل قاعة العرض.

تجارب مختلفة ولكنها تلتقي جميعها عند الحيرة والآلام، تخفف الممثلون الخمسة من عبئها ليتحوّل الركح إلى فضاء للحياة والحريّة تخلّصوا من أصفاد المرض ومن كل المخاوف التي اعترتهم، هو المسرح، كما الفنون جميعها، بلسم وشفاء.

معان كثيرة تشكّلت على إيقاع كلماتهم المحمّلة بالحياة رغم الألم المتغير الذي يسببه المرض، وتجليات كثيرة للإصرار والمقاومة وكأنهم يستمدون صلابتهم من "وردة الرمال" التي صارت إسما لمسرحية كانت نقطة فاصلة في حياتهم.

تجربة كل فرد تحيلك إلى "وردة الرمال" التي تنبث في الصحراء في هيئات أخاذة وساحرة، هي وردة ليست كالورود تتشكّل من الرمل غريبة التكوين قادرة على المقاومة وتشرّع أمامك أبواب الجمال.

ومسرحية "وردة الرمال" كانت برهانا على قدرة المسرح على التغيير وعلى النبش في أعماق الإنسان والنظر إلى تفاصيله دون خوف أو ارتباك، فقد كانت علاجا فنيا للمثلين المشاركين فيها، إذ واجهوا ذواتهم على الركح وشرّحوا مرضهم وتصالحوا معه.

على الركح خطوا قصصهم وأعلنوا الصلح مع مرضهم ومدوّا ايديهم إلى الأمل، امتلؤوا به ثم بعثروه أمام الحضور، وقصّوا حكايات مدادها من وجع ولكنهم خففوا من حدّته بأن جعلوا الابتسامة والتفاؤل نهاية الكلام.

أب يتخطّى عتبات المرض من أجل ابنه، وأم تخنقها العبرات وهي تروي تفاصيل إسناد ابنتها لها، وطالبة تقاوم من أجل أن ترى ابتسامتها في المرآة، وابنة تتشبث بالحياة من اجل أمها التي تشدّ عضدها ومن أجل الطفلة داخلها، وأم ثانية تقاوم من اجل ورودها الثلاث، ملامح باشرة لعرض مسرحي مختلف.

وعلى نسق أعراض التصلب العصبي المتعدد تصاعدت موسيقى تعبّر عما يعجز الممثلون عن التعبير عنه، عن الألم الداخلي، عن الحيرة، عن الترقّب، عن الأسئلة التي لا تنتهي أمام ظهورعرض جديد.

وسط ديكور أشبه بعيادة الطبيب، تتالت الأعراض التي جسّدها من عايشها فعليا وكان الأداء صادقا وعفويا يستثير الدمع في المآقي، ويقحمك في تجربة إنسانية لأشخاص يقاسون أمراضا كثيرة في هيئة مرض واحد يستدعي تدخّل الكثير من الاختصاصات الطبية.

تنمثيل وضعف في أحد الأطراف، وأحاسيس شبيهة بالصدمات الكهربائية وانحناءات في الرقبة ورعاش وانعدام التوازن وفقدان جزئي أو كلي للرؤية وتداخل في الكلام وتأتأة وإرهاق ودوار ووخز يسري في كل الجسم، وغيرها من الأعراض التي كشفها الممثلون قولا أو أداء.

وأنت تشاهد الأعراض يتسلل إليك الوجع وتتساءل عن قدرة المصابين بهذا المرض على التحمّل خاصة وأن أحد أطرافك قد يخونك مما يفقدك القدرة على المشي أو يجعلك عرضة للسقوط دون إيذان.

وبين شهادات الممثلين الصادقة عن مرض عايشوه، تتسلل كلمات ممثلة تنثر الأمل في ثنايا الحياة وتدعو إلى إنارة الشموع ليتبدّد الظلام ويعلو صوت الحياة وتينع زهرة الحياة، قبل أن تقول الموسيقى قولها في الختام وتتسرب من بين النوتات كلمات مفعمة بالإرادة والأمل " ما تخلي حد يقلك ما تنجمّش، الثنية صعيبة وماتوصلش"، كلمات غناها الكل بصوت واحدة وبحماسة كفيلة بأن تجعلك تربح كل حروبك.

 

 

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.