7
حليم لطفي الجريري-
كان وحلا متلاطما.. وكنا نظنه جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.. كانت لحظة مفاصلة تاريخية بين احترام القانون والعبث به، وكنا نظنها هوّة مجسّرة بين لحظتين تاريخيتين يسودهما التناغم بين الجرم وتطبيق القانون، وعلى هذا الأساس تنافسنا نحن المتنافسون فوق خيط رفيع فاصل بين حق وباطل..
عشية السبت 31 أيلول ألقي القبض على المترشح الأبرز للانتخابات الرئاسية نبيل القروي، وقد اتجهت كل الأنظار حينها نحو رئيس الحكومة يوسف الشاهد المترشح للرئاسة هو الآخر مرفقة بأصابع الإتهام: "سجنته لأنه مترشح جاد وخطير بالنسبة إليك" .
وهنا كلام في حلقنا لا نستطيع بلعه، حتى وان كان فيه شيء من الإتهام نوجهه الى دائرة الاتهام يطعن في استقلاليتها، كما فيه الكثير من المساندة الى الزمرة التي تعتبر القروي رجلا مارقا عن القانون، وهذه حقيقة نقولها، إلا إذا كان في الحقيقة ما يسيء.
تعالوا نتحدث بهدوء بعيدا عن الترف الفكري وعن السؤال الشائع "لماذا الآن"، أليس من حق الشاهد أن يلومنا إذا اتهمناه باعتقال مرشح وازن للرئاسة؟؟
لماذا؟
لأننا بذلك نكون قد تدخلنا في "شؤون القضاء" "واستقلاليته" وكل تلك "الكرازايات المعجمية" التي صارت قيما سامية جُبلنا عليها منذ سقوط بن علي (ونقولها بكثير من التنسيب)..
على الضفة الثانية من النهر، لسنا عميقين بمستوى سبعة فناجين قهوة مُرّة باليوم، ولكننا نقول إن مَثل نبيل القروي كمَثل الفيل في متحف الخزف، كيف ما تحرّك أفسد.. فالرجلُ له صولات في عالم السياسة وكان يقتص من خصومه بطريقته الخاصة (عودوا إلى فيدوواته المسربة وانصتوا الى أسلوبه في التعاطي مع معاديه من منظمة "أنا يقظ" وغيرهم من الأغيار).
المثل الشائع يقول: "الفوضى هي ما يريده لك عدوك"، ومن تصدر "لحُكم" العامة، فلا بد له بأن يتصدق ببعض من عرضه على الناس، لأنه لامحالة مشتوم أو "مخطوف"، حتى وإن واصل الليل بالنهار (رحم الله ابن حزم)..
إلى ذلك فإننا نكتفي بسؤال واحد: أليس القروي هو الذي صفّف حلوياته في طبق الشاهد وقدم له يديه -عن يد وهو صاغر- ليضع فيهما أصفاده؟؟؟ أنا خصم "لصاحب الوقف"، إذن عليّ ألا أكون مشبوها، ونقول "مشبوها" لأن الرجل مازال قيد التحقيق ولم يصدر حكم في شأنه إلى الآن، وقد يصدق القائل بأن سيل الاتهامات الهادر الذي يتعرض له كيديّ محض، وهذا ما قد يكشفه أمامنا لحاف الأيام القليلة المقبلة، وعليه، فإن الظالمين والمظلومين -في هذا المقام- بعضهم أولياء بعض، وليس علينا في "الأميين سبيل"، ويوسف الشاهد غلبهم بيافطة القضاء المستقل، وهم غلبوه بمنطق "الإختطاف" بدل الإيقاف، والقضية "المفتعلة" بدل التهمة التي عليها دلائل.. وبين هذا وذاك ظللنا نحن -الشعب الحائر على رأي الحكيم- جاسئين ذاهلين -في زمن رخاء الثرثرة-.
إنبلج فجر جديد بعد ثلاثة أسابيع من حادثة إيقاف القروي، وواصل الرجل حملته من داخل سجنه "بالمرناڤية"، وأول البارحة ظهرت نتائج شركة sigma conseil لسبر الآراء وتصدر القروي المرتبة الثانية للمترشحين بنسبة 15,5% من الأصوات لقاءَ 19,5% من الأصوات للمترشح قيس سعيّد، أعقبت هذه النتيجة نتيجة رسمية صرح بها السيد "نبيل بفون" رئيس الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات أمس صباحا، منحت السيد قيس سعيّد 19% من الأصوات مقابل 14,9 من الأصوات بالنسبة للسيد القروي، وهنا كانت المفاجئة.
قيس سعيّد أستاذ قانون دستوري خاض حملةً انتخابية بحرّ ماله حسب ما أعلن عنه، أي بضع دنانير من مليماتنا جاب بها أقاصي البلاد مناديا بضرورة احترام الدستور وواعدا بتوفير مواطن شغل عبر الاستثمار الذي لا يمكن له الإلتئام إلا بمحاربة المتهربين جبائيا والمبيضين للأموال.
على الضفة الثانية من النهر نجد رجلا (القروي) قادما من مدن "الفساد البورجوازي" حاملا لواء الفقراء رافعا يافطاتهم عبر ملكيته لقناة تحوق حولها الكثير من الأقاويل والتأويلات، وهي التي تسببت في إيقافه (أو منحت الفرصة ليوسف الشاهد لإيقافه) بعد إثارة منظمة "أنا يقظ" لقضية ضده اتهمته فيها باقتراضه لأموال من شركة في لوكسومبورغ لتسيير قناته، لينتهي كل حول والرجل يعلن إفلاسه بسبب سداده لقروض طائلة لهذه الشركة حتى ينجو من خلاص أداءاته للدولة، شركة تبين في ما بعد أنه يملكها وقد أسسها في سياق تبييض الأموال والتهرب الجبائي، ومع ذلك فالقروي اليوم ذاهب نحو الدوري الثاني ليناجز الأستاذ قيس سعيّد بقناة استغلها للنفاذ إلى عالم المخصوصين والبسطاء الذي منحوه 138 ألفا من أصواتهم.. 45% منهم من الأميين حسب مؤسسة سبر الآراء sigma conseil.
وتحسن بنا الإشارة هنا إلى أننا إزاء تصفيف للأصوات بعد تشتيتها بين 24 مترشحا ذهبت مساعيهم أدراج الرياح، وفي انسحابهم تغيّر للمعادلات الإنتخابية وضراوة جديدة تنضاف إلى هذا السباق الذي هو عبارة عن مضمار كبير يصهل فيه فرسان من العيار الثقيل بمفردهما، الأول خرج من ظهر "السيستام" وسدنته، والثاني خرج من هجعة أهل الكهف ذات حراك شعبي منّ به الزمن على التونسيين، واليوم هو ممثل للتيار الثوري في تونس وناطق باسم الذين ازدردهم نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
كل مقدرات رجال الأعمال الذين دعموا أمثال السيد الزبيدي والسيد الشاهد والقروي نفسه وغيرهم ممّن نسميهم "العائلة الديمقراطية" أو "أصحاب الوقف"، سوف يصطفون وراء القروي، تنضاف إليهم قناته وقناة الحوار التونسي التي ربما ستوليه عنايتها خاصة مع ما يعانيه اليوم من إيقاف وهو واحد من إثنَين يتصدّرا نوايا التصويت.
أما السيد سعيّد، فيسودنا اعتقاد بأن كل الذين صوتوا للدكتور المنصف المرزوقي والأستاذ سيف الدين مخلوف ومرشح النهضة عبد الفتاح مورو والأستاذ محمد عبو وغيرهم من الذين فيهم نفس ثوري سوف يصطفون وراءه لمنحه أصواتهم بإيعاز من المترشحين الذين ذكرناهم. هؤلاء معجبون بكاريزما قيس سعيّد المتفردة في زمن النسخ الشائهة، وهو شخصية ودودة جدّا وليس "إمعةً" في نظرهم، لكن تجدر بنا الإشارة إلى أنّ الجهة المقابلة (جهة نبيل القروي) انطلقت في قرع طبولها مؤذنة في خراب المسار عبر التشويه والتجريح بأن السيد سعيّد حائز على رضاء حزب التحرير (حزب تقي الدين النبهاني المنادي بإقامة الخلافة في تونس)، بسبب صورة التُقطت للناطق الرسمي السابق لحزب التحرير السيد رضا بلحاج مع المترشح قيس سعيّد ذات معرض للكتاب.
الأيام القليلة المقبلة سوف تقول قولتها الفصل، وسوف تعطي حكمها البات الذي لا يُؤَجّل، لكننا في الأثناء مازلنا نعتبره وحلا متلاطما ومازالوا يظنونه جنات عدن، وحلا لأن القانون طُبّق على المقاس وجعل مترشحا في السجن (رغم تضاربنا الجوهري مع ما يرنو اليه وأسلوبه في ذلك) ووحلا لأن "ماكينة السيستام" بدأت تحارب رجلا أبيض الراحة ونقي الكفّ، فلم تترك لنا المجال كي نَميزَ بين المعين والسمين اللذان تمايزا علينا، حتى صرنا بينهما كالأيتام على موائد اللئام.