وحده الاقصاء يعمم بالتساوي بين المتعايشين مع السيدا

سناء عدوني-

علاج مقطوع، توظيف ممنوع ووصم اجتماعي مضمون

بأنامل مرتعشة ماسكة بعلبة دواء أخيرة تحصلت عليها بشق الأنفس وصوت حزين وجفون ملؤها الدموع، تسرد مريم -اسم مستعار- العقد الثالث- لحقائق أون لاين بألم قصتها في التعايش مع فيروس نقص المناعة البشري المعروف بـ"السيدا" وتنقل لنا جزءا من حياتها في ماراطون يومي ينقسم على رحلتين، أولها حصة صباحية للبحث عن أدويتها النادرة والمقطوعة ثم جولات متفرقة بين مقاه ومحلات ومتاجر للبحث عن وظيفة، تتجول بين الشوارع والأنهج وسط العاصمة لتعود بخيبة أمل حيث تواجه صراحتها حينما تفصح عن تعايشها مع المرض المزمن بعنف لفظي شديد يرفقه وصم اجتماعي كلما حملتها الصدف إلى المرور بذلك المكان مرة أخرى.

لم تتمكن مريم من الحصول على وظيفة واحدة بهذه الطريقة، وحينما توجهت إلى محل حلاقة قرب منزلها رفضتها صاحبة المحل بعد أن صارحتها مريم بحقيقة مرضها المزمن وطردتها ووجهت إليها أبشع النعوت مما سبب لها ضررا نفسيا بالغا، حيث بات الثلب والسب يتهاطل على مسامعها كلما دخلت متجرا للتسوق وكلما مرّت أمام مجموعة من نساء الحي خلال أمسيات سمر أمام المنازل في حي شعبي في إحدى ضواحي العاصمة، مما دفعها إلى مغادرة منزلها والانتقال إلى مكان آخر رفقة صديقتها.
 
إثر كل ما عاشته من وصم وعنف واقصاء انتهى بها الأمر إلى مفترق طرق وصفته بقولها "اما أن أعيش بنفاق أو أتعذب بصدق" ، لتقرر أن تخفي مرضها وتشتغل دون الافصاح عن الأمر.
 
تستفيق مريم باكرا تقضي يومها متنقلة بين مستشفى الرابطة والصيدليات المجاورة من أجل اقتناء أدويتها من الفيتامينات والمكملات الغذائية والأدوية المضادة للفيروسات والبكتيريا، حيث تعد هذه الفئة من الأمراض المزمنة أشد عرضة لتضاعف اثارها الجانبية بفعل نقص المناعة  لديها، ثم تذهب إلى عملها فيما تقضي أوقات الفراغ وأيام الراحة في جمعية تهتم بالمتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشري.
 
انقطاع أدوية التروفادا المخصصة لعلاج السيدا
تشكو مريم من نقص أدوية عديدة على غرار أدوية "تروفادا المخصصة لعلاج السيدا، وتضيف أن وزارة الشؤون الاجتماعية قدمت لها "بطاقة حاجيات خصوصية" مصنفة بثلاث درجات أي أقصى درجات الاحتياجات لتؤمن لها النقل المجاني وبطاقة علاج مجاني لكنها لا تملك أي منحة أخرى لشراء الأدوية وتقول أنها تضطر حاليا للعمل في أي وظيفة من أجل تأمين حاجياتها وأدويتها بعد أن وجدت نفسها مجبرة على إخفاء تعايشها مع المرض المزمن حتى تتمكن من العيش وسط المجتمع.
 

 

قصة مريم تتكرر مع سليم -اسم مستعار- وهو شاب ثلاثيني متعايش مع الفيروس، تخلى عن صراحته وخيّر اخفاء مرضه المزمن يقول "لماذا أفكر في مجتمع لا يحس بي ويُقصيني" ، حيث يتحدث بمرارة عن عدم ايجاده لوظيفة مناسبة نظرا لعدم قدرته على اشتغال وظائف تتطلب جهدا كبيرا ونفور الناس ووصمه حين تصريحه بمرضه ليختار الانقطاع عن العمل الأمر الذي تسبب له في العجز عن العلاج خصوصا مع ندرة الأدوية وانقطاعها واضطراره للتزود بها من الخارج مما أجبره على التكتم وضمن له مكانة دائمة في طوابير العاطلين عن العمل، وغيره كثيرون وكثيرات ليكون الاقصاء وحده معممٌ بالتساوي بين المتعايشين مع السيدا.

تشير معطيات عديدة إلى ارتباك وتعثر المنظومة الصحية في تونس، حيث لم تفلح الحكومات المتعاقبة بعد في خلق سياسات عمومية اجتماعية تضمن جودة الخدمات الصحية والتمكين الصحي وخصوصا للفئات الضعيفة أو تلك التي تعاني الأمراض المزمنة وتكافح صعوبة الانخراط في العمل لا سيما المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشري والذين قد يعانون مثل حالة مريم من "الوصم والإقصاء. 
 
ورغم الشعور بالضيم تتحلى مريم بقوة وصبر وتركز على النشاط صلب "الجمعية التونسية للوقاية الايجابية ” التي تهتم بالمتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشري من أجل المساهمة في النصح والوقاية والإرشاد ولبث ثقافة الوعي حيث توفر هذه الجمعية بعض الأدوية بالتنسيق مع وزارة الصحة.
ويعد دواء "تورفادا" المخصص لعلاج مرض السيدا من الأدوية النادرة وسبق وانقطع مرات عديد من بينها العام 2015.
 
كما شهدت المستشفيات التونسية في عديد المناسبات نقص الأجهزة المخصصة لفحص فيروس نقص المناعة  البشري من بنك الدم حيث دقت الجمعيات الناشطة في مجال الوقاية من فيروس السيدا نواقيس الخطر حينها، غير أن الاشكال حسب عديد الأطباء والممرضين والمتدخلين في المجال الصحي يعود إلى تعثر السياسة الصحية للدولة.
 
وتبلغ ميزانية الصحة للعام الجاري حسب بيانات قانون الميزانية المنشور بالموقع الرسمي لوزارة المالية التونسية بمقتضى أمر رئاسي، نحو 3 مليار و250 مليون دينار.
 
وينقسم برنامج الوزارة على مهمات ومهمات خاصة وبرامج رُصدت لها جملة من الاعتمادات كما يبينه الجدول التالي.
 
ويلاحظ مراقبون أن الميزانيات المعتمدة طيلة سنوات في تونس لم ترصد اعتمادات خاصة أو صندوق خاص للأمراض المستجدة والمزمنة مثل "السيدا" وغيرها من الأمراض المزمنة التي تتطلب علاجا متواصلا، فيما تبلغ نسبة الانفاق على الصحة من الناتج الداخلي الخام نحو 7 بالمئة
 
مهمة صحية دون جدوى اجتماعية
حسب مهمة الصحة المنصوص عليها في قانون الميزانية فهي تتضمن 4 برامج منھا برنامج خصوصي للوقاية والعلاج الصحي والتثقيف الصحي غير أن فاعلية هذه المهمة على تحقيق فاعليتها تبدو صعبة حسب نفس التقرير لشح التمويل نظرا لأن منحة الدولة لصندوق الصحة العمومية (تمثل نسبة 75.0 بالمئة من جملة الموارد) منها 78.8 بالمئة للتأجير وتبقى الاعتمادات المخصصة للتنمية غير كافية  لانجاز المشاريع التي من شأنها تحسين جودة الخدمات.
 
كما تمثل نسبة مساهمة المواطنين حوالي 7.1 بالمئة من جملة الموارد ولم يتم تحيينها بصفة تقترب من تضخم الأسعار وبالتالي تبقى بعيدة على الكلفة الحقيقية للخدمات المسداة. أما مساهمة الصندوق الوطني للتأمين على المرض فتمثل فقط 20 بالمئة من جملة الموارد فيما تبقى مسألة تسديد مستحقات الهياكل الصحية من أبرز الاشكاليات.
 
كما يلاحظ عدم توفر الأدوية بالمستوى المطلوب في المستشفيات العمومية بفعل محدودية الأموال المخصصة لهذا الغرض، اضافة إلى نقص الموارد البشرية خاصة على مستوى طب الاختصاص حيث لم تتحصل مهمة الصحة على خطط انتدابات منذ سنوات متتالية كما لم يتم تعويض المتقاعدين.
وتعد نسبة الانفاق الصحي على الفرد ونسبة الانفاق على الفرد من جملة الانفاق العام محدودة حسب بيانات.
 بالنظر إلى مقارنة بسيطة، تعتبر هذه النسبة ضعيفة جدا وغير ممكنة لتحقيق المهمات المنصوص عليها وهو ما ينعكس على وضعية المصابين بالسيدا في تونس، من ناحية أخرى ومقارنة بدول أخرى على سبيل المثال الأردن التي تعد من بين الدول الضعيفة اقتصاديا يقدر الانفاق العمومي على الصحة من الناتج الداخلي الخام نحو 8 بالمئة.
القيروان تتصدر الفقر والسيدا
حسب بيانات الجمعية التونسية للوقاية الايجابية يتوزع عدد المصابين بفيروس السيدا على مستوى الجهات بكيفية متفرقة حيث يتمركز تفاضليا من تونس ثم أريانة ثم صفاقس ثم بنزرت ثم القيروان، وتعد القيروان من أشد الجهات فقرا بنسبة حوالي 34 بالمئة خلال 2017.
 
هجرة الأطباء تعمق أزمات الصحة العمومية
تعاني تونس معضلة نقص أطباء الاختصاص وهجرتها إلى فرنسا حيث بلغت نسبة هجرة أطباء التخدير والعناية المركزة نحو 24 بالمئة خلال سنة 2014 حسب بيانات عمادة الأطباء.
وحسب المختص في الشأن الاقتصادي فهد تريمش فإن " نفقات الصحة في تونس ترتفع إلى أكثر من 7 بالمئة من الناتج الداخلي الخام أي ما تقدر قيمته بين 9 و10 مليار دينار بين الإنفاق العمومي والخاص." 
 
ويمثل الإنفاق العمومي من الإنفاق الإجمالي ما يتجاوز النصف بقليل، ويمكن تقسيمه أساسا إلى ميزانية وزارة الصحة (3.250 مليار دينار سنة 2022 بينها 2.5 مليار دينار نفقات تأجير) وإنفاقات الصندوق الوطني للتأمين على المرض (2.4 مليار دينار سنة 2019 آخر المعطيات الرسمية المنشورة) والتي تمول 20 بالمئة من النفقات العمومية للصحة.
 
ويقول المتحدث فإنه "في ظل غياب تقسيم دقيق للنفقات حسب أنواع الأدوية، فإن نسبة الإنفاق في الأدوية الخصوصية لعلاج الأمراض الخطيرة يشكل ربع إنفاق الصندوق الوطني للتأمين على المرض، قرابة 600 مليون دينار، ولكن هذه النسبة ليست دقيقة."
 
وأشار تريمش إلى أن " الخارطة الصحية لتونس تشهد تفاوتات كبرى بين الجهات. ففي حين تنتشر مراكز الصحة الأساسية والمستشفيات المحلية بكل الجهات، فالأمر ليس كذلك بالنسبة للمستشفيات الجامعية.”
 
وتتوزع المستشفيات في عدد محدود من الولايات وخصوصا تلك المدن الكبرى والساحلية، وتوجد مستشفيات جهوية بها أقسام جامعية، وتفتقد ولايات أخرى إلى مثل هذه الأقسام. وتجمع تقارير على أن السياسة الصحية لتونس فاقدة لمقومات العدالة الاجتماعية. 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.