وثائقي “ع البار” لسامي التليلي: ماذا لو لم تكن كرة تميم على العارضة؟

 يسرى الشيخاوي-
 
هل تخيّلت يوما أن الكرة والسياسة والتاريخ خيوط يمكن أن تصنع منها جديلة بل جدائل؟ هل خطر ببالك يوما أن تشبك الموت بالحياة في ملحمتين؟ هل جرّبت يوما أن تمدّ طريقا بين الموضوعية والذاتية وتظفر الثلاثة معا؟ قد لا يتخطّى الأمر في ذهنك النظري لكنّ المخرج سامي التليلي جعل منه فيلما وثائقيا.
 
"ع البار" فيلم وثائقي ضمن المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية،من إنتاج "نوماديس إيماج" "SVP" و" milles et une productions" و "بروباغندا للإنتاج"، وقف فيه المخرج الشاب عند خطّ التاريخ وأمسك الكرة بيمناه والسياسة بشماله، ينظر مرة إلى الحاضر ويلتفت مرّات إلى الماضي ويرمي أحجارا في زواياه الغامضة  لعلّ التفاصيل تنفرج وتبوح ببعض الوضوح.
 
تجربة ذاتية أثارت في ذهنه سؤالا ما انفك يراوده  عن سبب رفض أمه مشاهدة مباريات كرة القدم وتتولّد عن السؤال حيرة تأخذ الإبن إلى سنة ثمانية وسبعين وتسعمائة وألف، تلك السنة التي شهدت ملحمة في تاريخ كرة القدم التونسية  لكنّ سيل الحيرة لم يتوقّف وكان على المخرج أن ينظر إلى زاوية أخرى انطلاقا من سؤال " ماذا تخفي هذه السنة في الضفة الأخرى".
 
كتاب عن إضراب جانفي العظيم وموقف أمّ تقاطع مباريات كرة القدم، تفاصيل كفيلة بأن تنقل الإبن من الذاتي إلى الموضوعي حيث تلاحق عين المخرج صورا وشهادات لتجيب عن أسئلة لن تموت، وخلف ستارة ملحمة كروية نافذة على ملحمة نقابية.
 
من كتابات بالزاك ومدام بوفاري إلى كتابات عن أحداث جانفي، سفر في تاريخ احتوته مكتبة والدته، مكتبة تختزن أسرار نقابية، من مجالها الضيق جدّا امتدّت آفاق شاسعة أمام سامي التليلي وأمام من يتابع "ع البار"، وباحت "الأم" بتفاصيل عن سنة الملاحم.
 
في المكتبة التي لمعت فيها شرارة وثائقي صوّر المخرج ملامحه بروح ابن يعشق تفاصيله ووطنه، كتب وآلة خياطة من زمن الملاحم، صورة رمزية لعمّال الفكر والساعد لم ترد في سيناريو الفيلم سهوا بل كانت حمالة دلالات ومعان، وكأن المكتبة تجسيد للمنظمة الشغيلة.
 
خميس أسود، اعتقالات وقتلى بلا حصر وجرحى، وتضييقات ووقف لجريدة الشعب على خلفية تغطية خاصة للإضراب العام الذي أقرّه الاتحاد العام التونسي للشغل حينما تعددت واجهات الصدام بين المنظّمة الشغيلة والنظام البورقيبي.
 
مواجهات دامية خلّفت صدعا في السلطة لا يخضع للرأب، تحويرات في وزارة الداخلية، لعبة سياسية عنوانها القمع حرّكت خيوطها "الماجدة" وسيلة بورقيبة، وكان أن طفا اسم زين العابدين بن علي على السطح ولم يستغرق الأمر سوى عقد من الزمن ليحلّ مكان الحبيب بورقيبة.
 
هبّة شعبية استدرتها السياسة القمعية لحكومة الهادي نويرة، هبّة عقبت ممارسات هوجاء لما عرف بمليشيات "الصيّاح"، وجه بائس للنظام البورقيبي وخميس أسود رسخ في الأذهان جيلا بعد جيل يقابله في الضفّة الأخرى وجه مشرق لتونس وأيام بيض عنوانها  الفرح.
 
الكرة وحدها كانت كفيلة بإدخال الفرح على قلوب التونسيين فرح يثير مكامن الثورة في نفوس معارضي النظام البورقيبي، فرح أجّل بشكل أو بآخر الصدام بين السلطة والمنظمة الشغيلة، وبين ملحمة الأرجنتين الكروية وملحمة تونس النقابية السياسية، اصطدمت آمال وأحلام بالعارضة وارتدت ليضاهي وجعها وجع الخسارة في عيني "تميم" حينما عانقت كرته "البار" .
 
"كورته على العارضة" تعليق من الذاكرة  من مونديال الأرجنتين، المونديال الذي اقترن في أذهان التونسيين بالثلاثية التي انتصرت فيها تونس على المكسيك، تعليق يحيل إلى كل بوادر التغيير التي لم يعقبها تغيير وطلّت بعدها دار لقمان على حالها وإثر كل ارتطام على العارضة تتخذ الأغلال شكلا جديدا.
 
ستة وتسعون دقيقة، قد تبدو لك مدّة عرض الفيلم طويلة، ولكنّ في الواقع  تتواتر الشهادات والصور بسرعة قد لا تجاريها أحيانا وأنت تتفكّر في حقبة من الزمن لم تحضرها ولكن نقلوا إليك بعضا منها وفق تمثلاتهم وغاياتهم، مراوحة رشيقة بين الكرة والسياسة وما بينهما من تاريخ.
 
مداولة بين الذاتي والموضوعي وما بينهما من رؤية فنّية، وتوزيع للشهادات المتأتية من عوالم السياسة والرياضة والأدب والسينما والتاريخ، مداخلات لنعيمة مفتاح، وسهير بلحسن، وهشام عبد الصمد، وفتحي بلحاج يحيى وجيلبار نقاش، والطيب بكوش، ومحمد الناصر، والباجي قايد السبسي، وطاهر بالخوجة، ومحمد الكيلاني، وخالد القاسمي، ومحمد علي عقبي، وفؤاد المبزع، كشفت عن بعض من تاريخ تونس في سنة حبلى بالأحداث اللافتة.
 
وأنت توغل في تفاصيل الفيلم الوثائقي لن يتسلل إليك الملل ذلك أن المخرج كساه بمسحة من الكوميديا من خلال التعليق المصاحب الذي يثير فيك الضحك، إلى جانب وضوح معالم الفيلم وبساطة طرحه القابل للفهم والهضم.
 
"لو كان سجّل تميم راي الديمقراطية جات من وقتها" جملة لفظتها والدة المخرج بعفوية لتثير فيك سؤالا قد تمضي عمرا ولا تجد له جوابا " ماذا لو لم تكن تسديدة تميم على العارضة"، وكرة تميم تخرج هنا من حيّز الملعب الضيق لتتخذ بعدا أعمق، كرة تميم هي كل انتفاضة وكل محاولة للتغيير، كان مصيرها مصافحة العارضة.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.