هنا” الجم” .. حينما تكون الموسيقى السمفونية برزخا بين عالمين

يسرى الشيخاوي-
 
على امتداد الرحلة من تونس العاصمة إلى الجم، حيث تعانق الموسيقى السمفونية أثر التاريخ، ترافقك الألحان والأصوات منذ أن تطأ قدمك محطة القطار.
أصوات المسافرين، وصوت صفير القطار، ووقع ملامسة الاقدام للأرض، كلها تحمل في طياتها نغمات إن أنت أنصت إليها بقلبك، كل تلك الحكايات العالقة في زوايا المحطة تتحول الى موسيقى.
وطيلة السفرة، تعانق عينيك ثنايا الطريق، على وقع معانقة عجلات القطار، السكة، عناق يحدث صوتا متناغماوينتشلك من الواقع ليرمي بك في دروب الخيال، البنايات المترامية، على حافة سكة القطار والأشجار والأراضي، ترافقك وتؤنسك، تبتلع الدقائق وتختصر المسافات.
سمفونية من الألوان والأصوات تداعب سمعك ونظرك طيلة السفرة، وتمتد إلى الساحة المقابلة للمسرح الأثري حيث تجذبك اصوات إيقاعات يحدثها عازفون  على براميل.
وعلى نسق ايقاعات البراميل المفعمة بالحماس، تعلو الابتسامات وجوه المتفرجين وتسكن الحياة في كل التفاصيل.
وغير بعيد على عازفي الايقاع، مجموعة صغيرة تعزف الحانا هادئة تخلقها انامل العازفين إذ لامست اوتار الغيتار والكمنجة، ألحان تنساب ليبلغ مداها منافذ قصر الجم الذي زاده الليل بهاء.
انت الآن تقف في برزخ بين عالمين، بين الماضي والحاضر، بين صوت التفجيرات وصوت الموسيقى، بين ظلمة الإرهاب ونور الثقافة، وأنى امتد بصرك سيقع على تفصيل يمتد بين الواقع والخيال، هنا تزين الشموع حيطان قصر الجم وتتوهج بلون الحلم والأمل، تغازل هلالا ونجمتين تتناجيان في قلب السماء.
وببسمات ترشح أملا وعيون تسكنها الحياة أقبل الجمهور لينتشي بالموسيقى الكلاسيكية، تونسيون وأجانب أغلبهم من الجنسية الإيطالية قدموا ليحتفوا بعرض لاوركسترا مهرجان بوتشيني في افتتاح مهرجان الجم الدولي للموسيقى السمفونية.
وفي رحاب "تِيسْدْرُوسْ"، تردد صدى عزف النشيد الوطني التونسي في أرجاء القصر، الله النشيد الايطالي، قبل أن تنطلق الرحلة بين نوتات موسيقى لا تعترف بالحدود.
وعلى ركح المسرح الروماني، الذي كان عالما قائما بذاته بكل تلك التفاصيل التي صمدت في وجه التغيير وكل الحكايات المنقوشة على الحجارة، كان الملحن الاوبرالي جياكومو بوتشيني حيا تتردد أنفاسه مع كل لحن وكل نوتة
وكان الجمهور على موعد مع مقطوعات موسيقية اوبرالية "البوهيمية" و "السيدة الفراشة" و"توسكا" و توراندو"، وهي آخر ألحان بوتشيني قبل وفاته، ومعزوفات أخرى حفظت اسمه بين نوتاتها.
والعرض الايطالي الذي قاده المايسترو ألبرتو فيرونيزي حمل بصمة تونسية من خلال مشاركة مغني الاوبرا حمادي الآغا فيه مع أصوات أوبرالية هي أماريلي نيزا وجيوفانا كاسولا وإيليا فابيان وإيفانا كانوفيتش.
والسفر في عالم الموسيقى الكلاسيكية، انطلق بمعزوفة على الكمنجة قدمها عمدة مدينة فلورنسا، قبل أن تجسد الاصوات الاوبرالية مشاهد الحب وما بينها من تضحية وخيانة، وكانت الاصوات نابعة من الاعماق متقطعة حينا ومسترسلة احيانا، 
تناغم كبير بين السوبرانو جيوفانا كاسولا والتينور حمادي الآغا، بدا من خلال تحررهما على الركح وتماهيهما مع الألحانوالأنغام، ومع معزوفة "توسكا" تجلى حب العازفين والمغنين للملحن الذي الخالد بموسيقاه بوضوح من خلال التناغم والانسجام عزفا وغناء.
وفي اوبرا البوهيمي، تعمق سحر صوت التينور التونسي حمادي الاغا واماريلي نيتزا، في غناء ثنائي كان قد انطلق فيه مع إيفانا كافانوفيتش التي آذنت بانطلاق الاوبرا.
وبمعزوفة "توراندو" التي رحل بوتشيني قبل أن ينهيها، انتقلت ذبذبات صوت ايفانا كانوفيتش بين حدّة الموسيقى ورقّتها وتتلون خامته بين الامتدادات والانحناءات التي تضفي سحرا على أداء المغنّية، وتحمل الجمهور إلى عالم سرمدي  لا تفنى فيه الموسيقى.
وان انتهى عرض اوركسترا بوتشيني بأداء غنائي  لقائد الأوركسترا ، فإن ألحانه علقت في تجاويف قصر الجم، تلك الحجارة التي تحتضن قصص الحب والتضحية والخيانة والأنانية، والآهات والتنهيدات وصوت العصافير والريح والنسيم، ورفرفة أجنحة طيور الليل التي احتفت بالموسيقى السمفونية ولم تخفها الشموع الموقدة في منافذ قصر الجم.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.