هل نمر من حكومة الرئيس إلى دولة الرئيس؟

 بقلم عبد الحميد الجلاصي –

كثيرا ما يجد المشتغل بالسياسة نفسه في حرج الموازنة بين الوفاء لمقتضيات النجاعة وبين الاستجابة لضرورة قول الحقيقة وإرضاء الضمير. وليس هناك سياسي يقول كل الحقيقة، فأفضلهم هو ذاك الذي لا يقول حينما يتكلم إلا الحقيقة. والصمت يمكن أن يكون علامة حكمة ولكن يمكن أن يكون أيضا خذلانا وخيانة للواجب الوطني.

والوضع اليوم وبعد الخروج من الجائحة دقيق وحساس، حيث تواجهنا معضلات كثيرة بعضها بنيوي قديم بسبب خيارات تعود لأكثر من خمسين سنة وبعضها مستجد بسبب استتباعات الجائحة العالمية. لذلك يلتفت التونسيون للبحث عن قيادتهم في مراكز السلطة الثلاثة وفِي الروافع الاساسية، ولكن لا شيء يطمئن.

وفِي كل عملية قيادة سياسية توجد المؤسسات المنتخبة مثل الرئاسة والبرلمان والحكومة، وتوجد الروافع السياسية والاجتماعية.. غير أنه لا يبدو ّأن البرلمان الجديد قد استخلص الدروس من اخلالات سابقه، بل بالعكس انطلق من  

أسوء ما كانت عليه الأوضاع في العهدة الماضية في المنهجية والمناخات والمناكفات والرسائل.

أما الحكومة فقد نجحت في تجاوز الجائحة ولكن لا يبدو أنها نجحت في رص صفوفها وإرساء الثقة بين مكوناتها واعتماد ما يكفي من الشفافية في إدارة شؤونها وإزالة الشبهات حول ما قام به بعض مسؤوليها، أو أنها لم تقم بما يكفي من التواصل لتحقيق هذا الغرض.

وفِي السياق الحالي تمثل حركة النهضة أهم رافعة حزبية ويمثل اتحاد الشغل أهم رافعة اجتماعية ويتوفران على امكانيات عالية للتأطير والتوجيه والمرافقة، وينتظر كلتيهما استحقاق انتخابي داخلي قريب تسبقه تجاذبات يخشى أن تتسع أثارها للمؤسسات والشارع ان لم تتم محاصرتها بحكمة. وهنا لا يجب أن ننسى دروس التاريخ القريب.

وفي وضع مثل هذا كان يفترض تدخل السيد رئيس الجمهورية بما له من صلاحيات دستورية وقيمة اعتبارية وشرعية انتخابية لتجميع التونسيين وتهدئة الأجواء والإعانة على ترتيب الأولويات.. لكن تأخر هذا التدخل وانطلقت التأويلات لتفسير هذا الصمت. وكان كثير من العقلاء يقاومون ما يروج من أن الصمت مندرج في مخطط للاستثمار في وضع يتعفن يوما بعد يوم والاستقواء في سبيل ذلك بالشارع للضغط على المؤسسات.

كان المأمول من السيد الرئيس أن يقوم بدوره لاستباق ما حدث في جلستي 3 و9 جوان من أضرار جسيمة بصورة وعلاقات ومصالح تونس.. فدور القيادة هو الاستباق والسياسة فن الاحتواء أيضا.. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.

وكان بالإمكان أن يخاطب الرئيس التونسيين للتنبيه والإشارة إلى الاخلالات وهي موجودة، ولكن ذلك لم يحدث في تونس.. ولما تكلم السيد الرئيس فعل ذلك خارج البلاد وفِي وسائل اعلام اجنبية واتخذ مواقف من عمل مؤسسات وهيئات هو جزء منها بل هو المعبر عنها، وبسط برنامجه ورؤيته للقضايا الكبرى للبلاد في المرحلة القادمة كما لم يفعل ذلك من قبل في أي وسيلة اعلام تونسية، وتدخل في قضايا تهم السياسة الخارجية بمنهج غير موفق لا في المضمون ولا في المنهج والصيغة، بل وتصرف في حقوق التونسيين التي ما كان له أن يتصرف فيها.

لقد أخطأ السيد الرئيس أخطاء جسيمة.

في العهدة السابقة انزاح المرحوم الباجي قائد السبسي بالنظام السياسي نحو ما يشبه النظام الرئاسي وسكت الجميع لسبب أو لآخر، وتضررت البلاد جراء ذلك ولا نزال نعاني أثار تلك الأخطاء.. ألاحظ انزياحا مشابها الآن.

إن الغيرة على البلاد والمسار وتقديرنا للمؤسسات يدعونا للتنبيه، وقد لاحظت في الحوار مع جريدة "le monde" مسعى للإنحراف إلى دولة الرئيس التي تشتغل بالتوازي مع الهياكل والإدارات والمسالك المعتادة.

هذا الانشغال يتزايد حينما نلاحظ أن قوى عظمى قد تنقل صراعاتها إلى داخلنا الوطني للمراهنة على هذه القوة أو تلك.

وبقدر ما يجب أن نفخر بالسجال في الفضاء العام وفي المؤسسات وبينها باعتباره مكسبا أساسيا للثورة وجب تدعيمه، بقدر ما يجب التذكير بأن استقلال البلاد خط أحمر.

وفي هذه الأوضاع الدقيقة لا خيار سوى تكامل المؤسسات وتحمل الروافع الأساسية مسؤولياتها.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.