بقلم عبد السلام بن عامر
تصير مهنة التعليم ممتعة لا شاقة حين تحب هذه المهنة..وتقتنع أعماقا أنك تمارس أنبل مهنة في الدنيا..وحين تقرأ في عيون تلاميذك حبهم لك فتبادلهم حبا بحب.. ومن أجلهم لا تتردد في العمل عدّة ساعات في المنزل، إن لزم الأمر، من أجل إنجاح حصة لا تتجاوز ثلاثين دقيقة.. وخاصة خاصة خاصة حين تتفطن إلى أن المنظومة التي خرّجتك مُدرّسا غشّت تلاميذك بك..وبأنك في حاجة إلى أن تتعلم يوميا لتتدارك نقائصك وتتقن مهنتك فيتحول تعبك راحة مثلما حدث معي طيلة الخمس عشرة سنة الأخيرة التي قضيتها في التعليم..
لقد قضيت الخمس عشرة سنة الأولى من عملي مغترّا بقول بعضهم عني إنني “معلم ونصف” قبل أن أكتشف أنني ّعُشُرُ معلم” وذلك بمناسبة مناظرة تضمنت حوالي نسعين سؤالا في قواعد اللغة، أجبت عن بعضها دون ثقة في النفس، وعجزت تماما عن الإجابة عن بعضها الآخر والحال أنها أسئلة من حق التلميذ أن يجد أجوبة عنها من معلمه..
لقد نجحت في المناظرة ووجدتني بين خيارين: اغتنام الفرصة لأصبح أستاذا..أو السعي إلى أن أكون أولا معلما بمعنى الكلمة..ولم أتردد لحظة في التضحية بالسعي إلى الحصول على لقب “أستاذ”..
ومن يومها صرت لا تقع عيناي على كتاب لغة إلا وأقتنيه..وعملت مدة عامين بمعدل عشر ساعات في اليوم..وكانت الحصيلة ما صار فيما بعد كتابا أصدرته واحدة من أكبر دور النشر في تونس في طبعتين بـ3000 نسخة الواحدة نفدت جميعها من المكتبات*..
وبإحساسي بأني صرت أتقن عملي صرت أحب مهنتي أكثر..وأفيد تلاميذي أكثر..ويحبني تلاميذي أكثر..كل ذلك بأقل ما يمكن من العناء..
صحيح أن إحصاءات ما في زمن ما بيّنت أن أشقى مهنة هي مهنة عمال المناجم ثم مهنة التعليم بالاستناد إلى معدل أعمار أصحاب مختلف المهن..وصحيح أن عشرات المدرسين تُوُفّوا واقفين في أقسامهم.. ولكن يجب ألا ننسى “أن الإحصاءات تقول كل شيء ولا تقول شيئا”: (les statistiques disent tout et ne disent rien).. فهل نحن وحدنا، رجالات التعليم، من نموت أثناء مباشرتنا لعملنا؟ ثم عن أية مشقة نتحدث مقارنة بمهن الأمنيين والعسكريين مثلا، هؤلاء الذين يخرج الواحد منهم صباحا من منزله غير مستبعد أن يعود إليه مساء في صندوق؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أتحدث عن كتابي “الواضح في قواعد اللغة” – دار سيراس للنشر (الطبعة الأولى: 1995 والثانية 1999)