“هارب من/إلى الدولة الإسلامية”.. مونودراما عن صناعة العقل المتوحّش

 يسرى الشيخاوي- 

لكورونا أحكام مزعجة منها تأجيل عروض مسرحية في الوقت الذي ترنو فيه النفوس إلى فسحة من الأمل يخلقها المخرجون والممثلون على الخشبة، ومن بين العروض التي أجّلت كورونا ميلادها مونودراما "هارب من/إلى الدولة الإسلامية". 

"هارب من/ إلى الدولة الإسلامية" عمل مسرحي من تصوّر وأداء الممثل منير العماري وصياغة درامية للمخرج وليد الدغنسي وهو مستلهم من من كتاب "كنت في الرقة هارب من الدولة الاسلامية" لهادي يحمد. 

في الطريق إلى قاعة العرض، لن تعبر إلى فضاء التياترو دون قيس الحرارة وتعقيم الأيادي، حرص على الالتزام بالإجراءات الوقائية من ارتداء الكمامات إلى التباعد الاجتماعي حتّى أنه القائمين على الفضاء لم يكتفوا باللافتات المعلّقة على على الكراسي غير الصالحة للجلوس بل إنهم نزعوها نكاية في كورونا.

"مقعد غير آمن"،"مكان غير صحّي"، "غير صالح للجلوس"، "مكان غير صحّي"، "مكان محجوز"، عبارات تفصل بين الكراسي الصالحة للجلوس وتتلو مانفستو رفض القيود على الأنشطة الثقافية.

وفي اتساق مع الظروف الاستثنائية للعرض المسرحي، كانت مصافحة الممثل منير العماري مع الجمهور استثنائية إذ أطل عليه ورتّل كلمات مدادها الحرية والفن والحب، حب المسرح مااستطاع إليه سبيلا.

حافيا تعانق قدماه الخشبة بعد غياب وفي كل خطوة يخطوها سيل من الأنفاس التي تعجز الكلمات عن ترجمة معانيها، كلمات لا يفقهها إلا من روى الخشبة بعرقه ودمعه وعمّده بصوته.

عن الجائحة وعن الفن والمسرح تحدّث منير العماري وفي نبرته بعض من الحزن لما آلت إليه الأوضاع ولكنه لا يلبث أن يبتلعه وينثر الامل من حوله ويستجير بالمسرح من كل يأس.

قبل أن يسلم جسده إلى الركح، عرّج على لحظات المخاض الأولى  وقرار خوض تجربة المونودرام وعضده وسنده رفيق الدرب المسرحي وليد الدغسني وعلى الاقتباس من كتاب هادي يحمد والنهل من كتابات حاتم التليلي الغاضبة.

في الأثناء تعلن رقصة الأضواء الخافتة عن انطلاق العرض المسرحي، ومع انسياب السرد المسرحي تضطرب حركة الأضواء حتى تسكن في بعض الأحيان أمام وقع أنفاس الممثل.

على الركح وظّف منير العماري حركاته ونظراته وايماءاته وأنفاسه وخطواته ليحاكي مراحل صناعة العقل المتوحّش التي اتى عليها الكاتب هادي يحمد من خلال قصة الإرهابي الهارب من الدولة الإسلامية " محمّد الفاهم.

" كيف يتحوّل شاب عاشق للموسيقى والشعر إلى إرهابي ينتشي بالأشلاء والدماء" سؤال يبدو في ظاهره سورياليا لكنه يحتمل إجابات كثيرة أوجدها مختصون في علم الاجتماع ومفكرون وشرّحها كتاب وفنانون كل على طريقته.

على امتداد خمسين دقيقة، يسافر بك ممثل واحد من بلد إلى آخر ومن زاوية إلى أخرى ويقحمك في أجواء القصف والقتل والإرهاب، وقد يبدو لك الأداء مبالغا فيه في بعض المواضع ولكن في الواقع ليس إلا محاكاة للحقيقة التي تفوّقت على الخيال.

وإن كانت المونودراما في جوهرها تراجيدية فإن الممثل المتمكّن من مفاصل نصّه اقتنص فسحات من الكوميديا أداءا وكلمات وأضحك الحاضرين رغم المرارة التي تنضح من تفاصيل العرض.

من مشهد إلى آخر يحاول منير العماري ان يلامس الأسباب النفسية والاجتماعية التي تخلق إرهابيا، وفيما هو يتنقّل بين الشخصيات والأفكار يرتّب الهادي بلخير " ميش" خيوط الضوء الذي يشقط في كل مرة على تفصيل فيشدّك إليه شدّا.

وعلى بساطتها تبدو الملابس التي أوجدها العرائسي عبد السلام الجمل منسجمة مع بقية عناصر العرض الذي اختار صناعه أن يكون بسيطا خاليا من التعقيدات يكمن عمقه في صناعة مشهدية لا يتسلل الملل من بين ثناياها.

السينوغرافيا، أيضا، بسيطة جدّا على عكس النص الذي كان جسورا، فعلى الركح لا يوجد سوى كرسي يهرع إليه في بعض المشاهد ولافتات بيضاء تحاكي الإنسان قبل تحديد خياراته التي قد تلطّخ البياض.

من وضعية نفسية إلى اخرى ومن حالة ذهنية إلى اخرى ترتسم لوحات لن توغل في تحليلها كثيرا لأن منير العماري يجيد التحرّك على الركح ويجيد شدّ الانظار إليه وهو الذي تمكّن من خيوط  الركح وبرع في تحريكها.

وفي "هارب من الدولة الاسلامية" تتظافر العناصر المسرحية وتتناغم لتصنع مونودراما تخاطب العاطفة والقلب وتعود بالذاكرة إلى السنوات التي وسمتها ظاهر التسفير والجهاد وتدعو إلى التفكر في مسببات صناعة العقل المتوحّش.

 

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.