الكتاب الذي ارتأينا تقديمه للقارئ المغاربي و العربي بصفة عامة وللباحثين في الظاهرة الإرهابية هو تحت عنوان "تحت راية العقاب: سلفيون جهاديون تونسيون"لصاحبه هادي يحمد،وهو إعلامي تونسي سبق له أن تحمل مسؤولية رئيس تحرير موقع حقائق أون لاين، عرف بتحقيقاته الاجتماعية والسياسية وهو مختص في شؤون الحركات الإسلامية والأقليات، ويشرف على التدريب في شبكة أريج للصحافة الاستقصائية. نال العديد من الجوائز من بينها جائزة أفضل تحقيق صحفي عن جمعية الصحفيين التونسيين حول "المحكوم عليهم بالإعدام في تونس"، كما نال جائزة "القلم المهاجر" التي منحته إياه جريدة الموقف التونسية.
يقع الكتاب في 243 صفحة من الحجم المتوسط وقد صدر سنة 2015 بتونس عن منشورات "الديوان للنشر"، وجاء غلافه موشحا بالسواد وتتوسطه دائرة بيضاء في إشارة لما يعرف بـ "راية العُقاب" التي تتخذها الجماعات السلفية الجهادية علما لها وتنسبها إلى الرسول (ص) بناء على بعض روايات المحدثين. ويتكوّن الكتاب من مقدمة و 17 فصلا يليها ملحق من 9 ورقات تتراوح بين حوارات أجراها هادي يحمد مع رموز السلفية الجهادية التونسية (سيف الله بن حسين "أبو عياض"، وسليم القنطري "أبو أيوب التونسي") إضافة إلى نص حول فتوى الجهاد في تونس في منبر التوحيد والجهاد، والهيكل التنظيمي لكتيبة عقبة بن نافع بجبل الشعانبي، وبيان لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي إلى عقلاء الحركة الإسلامية التونسية، وبيان ثاني لنفس التنظيم بعد استهداف منزل وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو، ونماذج من وثائق سنجار حول المقاتلين التونسيين في العراق، ونماذج من وثائق التحقيقات المتعلقة بالمعتقلين التونسيين بغوانتنامو، وينتهي الملحق بوثيقة ترشيد الجهاد في مصر والعالم لصاحبها الأمير السابق لجماعة الجهاد الدكتور فضل والتي قام فيها بمراجعات فكرية للتخلي عن خيار العنف المسلح.
ويعتبر هذا الكتاب تقريبا أوّل عمل صدر باللغة العربية في تونس يتناول ظاهرة السلفية الجهادية التونسية، ولعلّ التحقيقات الصحفية للكاتب وعمله على مثل هذه المواضيع منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، إضافة إلى اهتمامه بظاهرة الإسلاميين التونسيين الذي يؤمنون بعقيدة الجهاد العالمي في إطار اختصاصه في الحركات الإسلامية قد ساعدته على اقتحام عالم ظل غامضا لعقود، حيث تمكن في مؤلفه من الجمع بين عمل الصحفي الاستقصائي والجهد التوثيقي والتحليلي للباحث المتخصص، ليقدم أجوبة حول أسئلة عديدة ومتشابكة ومرتبطة ببعضها البعض ظلت تتردد كلما جدت عملية إرهابية في تونس وسقط الضحايا وهي: كيف وصلت تونس إلى هذه المرحلة من توالي العمليات الإرهابية ؟ كيف دخلت نفق العنف الديني ؟ من المتسبب ؟ من أين جاء هؤلاء ؟ من يحركهم ؟ ومن هم قادتهم وزعمائهم العقائديون ؟ هل العنف السلفي الجهادي حالة عارضة في تونس أم لها جذور تاريخية ؟ وما هي المنابع الفكرية لهذا التيار وماهي ولاءاته وارتباطاته ؟[1].
فهذا المنجز الصحفي البحثي جاء ثمرة لتحقيقات وبحث في ظاهرة التونسيين الذين انخرطوا في ما يسمى بالحركات "الجهادية" في تونس وفي العديد من بقاع العالم، وبذلك يمكن اعتباره عملا ميدانيا وتوثيقيا يتتبع نمو ظاهرة السلفية الجهادية التونسية منذ ثلاثة عقود من الزمن، ويتضمن بورتريهات وسيرا ذاتية للجهاديين التونسيين ويبحث في الأسس الفكرية والحوافز النفسية التي أدت بهم إلى اختيار هذا المنهج في الحياة. وبني هذا المجهود الميداني الذي هو عماد تكوين الكتاب على حضور الكاتب لمؤتمرات ومحاضرات ولقاءات وإجراءه لحوارات عديدة مع رموز وقيادات وشباب التيار السلفي الجهادي سواء في تونس أو مع الجهاديين التونسيين الذين عاشوا في بلدان أخرى أوربية وعربية بالنظر إلى امتداد الظاهرة إلى خارج تونس، حيث عمل الكاتب على البحث عن أمثلة لتونسيين خاضوا تجارب جهادية في الخارج وتتبع مسارات رحيلهم إلى ما أطلق عليه بـ "أرض الجهاد". أما المجهود التوثيقي فينطلق من الاستماع إلى مئات المحاضرات والدروس والاطلاع على أهم المراجع العقائدية للسلفية الجهادية، وكل ما يتعلق بها من كتابات تتناول من قريب أو بعيد الحالة التونسية.
ولأن ظاهرة "الجهاد" أصبحت معولمة وعابرة للقارات فلا يمكن فهم السلفية الجهادية في السياق التونسي دون ربطها بسياقاتها المحلية والاقليمية والدولية، لذلك فالكتاب يفسر نمو ظاهرة السلفية الجهادية في تونس من خلال ثلاث فرضيات أساسية يطرحها هادي يحمد في كتابه:
*الفرضية الأولى:
قمع نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي لظاهرة التدين وما أنتجته طوال عقد التسعينات وسنوات الألفين من محاصرة ومراقبة لكل مظاهر الإسلام السياسي. وتؤكد هذه الفرضية أن انتشار التيار السلفي الجهادي كان ردة فعل على واقع يتميز بحالة التصحر الديني، ومنع ظهور أية حركة دينية يمكن أن تعمل في العلنية من أجل تأطير الشباب المتدين. من هذا الباب يعتبر أنصار هذه الفرضية في التحليل أن التيار السلفي الجهادي جاء بمثابة رد فعل على هذا الفراغ الذي تركه طرد حركة النهضة من البلاد والزج بأنصارها وقياداتها في السجون.
*الفرضية الثانية:
ذات بعد إقليمي دولي وتذهب إلى القول إن نمو هذا التيار مرتبط بردة فعل على أوضاع دولية، حيث تذهب هذه الفرضية إلى القول إن غزو أفغانستان بعد أحداث 11 شتنبر 2001 واحتلال العراق سنة 2003 شكلا البداية الفعلية لتكوين الخلايا الأولى للشباب الذي يتبنى عقيدة الجهاد لا في تونس وحدها بل في المنطقة العربية بأكملها.
*الفرضية الثالثة:
تأثير مواقع الأنترنيت والقنوات الدينية ذات الطرح السلفي الوهابي والتي تبث من المشرق العربي[2].
كانت بدايات البحث في ظاهرة السلفية الجهادية في تونس أثناء بروزها في العشرية الأخيرة من حكم الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وما رافق بروز الظاهرة من محاكمات بالمئات لشباب السلفية الجهادية. وتواصل الاهتمام بها من قبل الكاتب هادي يحمد في الفترة التي لحقت "الثورة التونسية" عن طريق تتبع خروجها إلى العلن، ومظاهرها وإفرازاتها وبدايات انخراط أفرادها في الصراع المسلح مع السلطات الحاكمة. وبهذا فقد تتبع الكاتب مسارات نشأة الأنوية الأولى للتيار الجهادي التونسي خارج البلاد، فالسلفية الجهادية التونسية وقبل أن تبدأ مشوارها في تونس في سنوات الألفين نبتت بعيدا عن البلاد في جبال أفغانستان، وفي صحاري الرمادي بالعراق وكذلك في شوارع أوربا حيث كانت بدايتها. ومن هذا المنطلق فكك الكاتب تطور الظاهرة إلى ثلاث مراحل أساسية ساهمت في إيجاد ثلاثة أجيال من السلفيين الجهاديين التونسيين إلى حد الآن:
الجيل الأول: جهاديو المنافي، بين 1992-2001.
الجيل الثاني: جهاديو السجون، بين 2002-2011.
الجيل الثالث: جهاديو ما بعد الثورة، بين 2011- إلى وقتنا الحالي[3].
من أهم مميزات هذا الكتاب أنه حاول معايشة ظاهرة السلفية الجهادية في تونس بدون أحكام مسبقة وبعيدا عن الإثارة رغبة في الفهم والتقصي. ورغم أن التناول ينحو في أحيان كثيرة إلى اعتماد أسلوب صحفي وقصصي مشوق، فإنه في باطنه دعوة ضمنية إلى التفكير وطرح الأسئلة المسكوت عنها، ولعل أهمها السؤال الجوهري المرتبط بالأسباب التي تدفع شبابا في عمر الزهور إلى اختيار طريق الموت من أجل تحقيق ما يؤمنون به من أفكار والتعبير عن وجودهم أو الاحتجاج عن أوضاع اجتماعية وسياسية داخلية وخارجية لا ترضيهم. أما على المستوى المنهجي فهادي يحمد لا يتتبع الظاهرة الجهادية في تونس طبقا للتسلسل التاريخي الكرونولوجي، وإنما عبر النماذج والمحطات الكبرى والشهادات والحوارات الميدانية محاولا تتبع نموها وتطورها عبر الزمن دون الاعتماد بالضرورة على الخط الزمني الأفقي الجامد. وبذلك فالكتاب لا يدعي أنه يؤرخ للظاهرة ولا هو مندرج في البحث التاريخي الأكاديمي، ولكنه يقدم كل الوقائع موثقة في الزمان وفي المكان وهو من هذه الناحية كتاب ذو طابع صحفي مشوق يعطي خلفية تاريخية موثقة، ويمثل مادة لا غنى عنها لمن يروم البحث التاريخي الأكاديمي للظاهرة.
يمكن القول في نهاية هذا التقديم المركز لكتاب "تحت راية العقاب: سلفيون جهاديون تونسيون"للكاتب الصحفي هادي يحمد أن هذا العمل هو رحلة شيقة وخطيرة في عالم السلفية الجهادية التونسية بين تونس والقاهرة مرورا بمدن أوربية، وصولا إلى الرقة ومقديشو وكابول وغوانتنامو، يهدف من خلاله الكاتب إلى استفزاز القارئ للبحث عن خلفيات الظاهرة وأصولها الفكرية والتفكير في خلفياتها الثقافية، ومكامن القصور التي تؤدي إلى فعل القتل باسم الله أو "الاستشهاد" في سبيله حسب معتقدات الحركات الجهادية، وقراءاتهم وتفسيراتهم للنصوص الدينية. وبذلك فهو لا يقدم إجابات فكرية عن تساؤلات فقهية أو دينية ولكنه يحاول من خلال الوقائع طرح أسئلة ضمنية مشروعة حول الإشكال الثقافي والديني والسياسي لمشروعية استعمال العنف باسم الإسلام. فالكتاب في مجمل فصوله يلقي الضوء على ظاهرة هي في طور التطور والتبلور والتشكل، لهذا فإن الصعوبة تكمن في استشراف مستقبلها وعلاقتها بمحيطها التونسي الضيق وارتباطاتها الاقليمية والدولية المحددة بالقطع لمستقبلها.
[1] هادي يحمد: تحت راية العقاب: سلفيون جهاديون تونسيون
، تونس، الديوان للنشر، 2015، ص 26.
[2] هادي يحمد: تحت راية العقاب: سلفيون جهاديون تونسيون
…م.س، ص 39- 40- 41.
[3] هادي يحمد: تحت راية العقاب: سلفيون جهاديون تونسيون
…م.س، ص 131.
**حسام هاب: باحث في التاريخ الراهن – جامعة محمد الخامس الرباط – المغرب