نهج إنجلترا: بين الحب والشهوة وغرائزية السياسة

مريم مرايحي-
في رحلة عابرة للزمان والقارات أخذتنا مية الكسوري، مطوعة الزمان والمكان والشخوص، لرسم ملامح قصتها فكان "نهج انجلترا" بداية الحكاية ومحورها ومُلتقى أبطالها. 
 
"نهج أنجلترا" أول رواية للمحامية مية الكسوري، صدرت عن دار نشر مسكيلياني وتمّت طباعتها في بيروت، تنقلت من خلالها الكاتبة عبر العصور، إنطلاقا من ثمانينات القرن الماضي لترصد واقع الحركة الطلابية في ترك الفترة والصراع بين اليساري الإسلامي والحركات الطلابية، مرورا بحرب الخليج وصولا إلى ثورة 14 جانفي.
 
كثافة الوصف ورمزية المكان
 
"نهج أنجتلرا وجل شوارع تونس العاصمة جزء لا يتجزأ مني" هكذا ردت مية الكسوري عن سؤال "لماذا إخترت نهج أنجلترا بالذات؟" معتبرة أن كل نهج من أنهج تونس العاصمة بممراته وأزقته وبناياته الآيلة للسقوط يمثل جزء من جسدها وروحها.
فأطنبت الكاتبة في وصف  نهج انجلترا، فوصفت المعهد والشوارع والدكاكين والمقهى وراوده وبائعي الكتب وغاصت في أدق التفاصيل لتصف حتى أغلفة المجلات المعروضة للبيع على رصيف الشارع، فمثل الوصف محور الفصلين الأول والثاني بإمتياز، ليمثلا تعريفا لشخوص القصة وغوصا في باطنها وتفاصيلها قبل الولوج إلى الأحداث.
 
غلب الوصف في جل الرواية على الأحداث إلاّ أنه لم يؤثر على تصاعدها وسيرورتها. بل خدم بشدة تسارع نسق الأحداث، فمواصلة الكاتبة رصد تفاصيل الشخوص والأماكن خلق تشويقا لدى القارئ وتعلقا بشخصيات الرواية الذي أصبح يدرك أدق مكامنها، لينمي الوصف ملكة الخيال لدى القارئ الذي بات يتصور ملامح الشخصيات ويرسمها في خياله وهو مايضفي واقعية على الأحداث.
 
ثلاثية الحب والجنس والسياسة
 
تمحورت الرواية حول ثلاثية الحب والجنس والسياسة، فلم تفصل الكاتبة بين هذا الثلاثي، ليحضر مفهوم الغريزة أو الشهوة ويرتبط بالحب وبالسياسة في جل القصص التي استعرضتها مية الكسوري في روايتها.
مفهوم النضال والنضالية، الصراع الإسلامي اليساري، ثورة 14 جانفي، حرب الخليج وتباين المواقف حولها…مفاهيم حظرت بشدة في جل فصول الرواية  لتجعل منها راوية يغلب عليها الطابع السياسي، فتعري الكاتبة واقع اليسار في تونس وتدعو الأحزاب اليسارية إلى مراجعة خطابها السياسي القائم على المثالية، إضافة إلى إطنابها في نقد الحركات الإسلامية التي طالما اعتبرتها حركات إرهابية متاجرة بالدين وبالقيم.
 
واعتبرت الكاتبة من جهة أخرى أن الجانب الغرائزي يمثل ركيزة جميع قصص الرواية إذ مثل المحرك الرئيسي للأحداث ومنطلق جميع قصص الحب والتسيس، فنقدت الكاتبة ما لقبته بالانتماءات الغرائزية أي التسيس العاطفي الذي أصبح طاغيا على العقل في كثير من الأحيان، ودعت بطريقة ضمنية إلى عقلنة المسائل السياسية وعدم الإنسياق نحو العاطفة أو المراهقة الساسية وإعمال العقل المحايد في تقييم الواقع السياسي. 
كما حظر مفهوم الجنس والشهوة  لتعكس الكاتبة ما تعيشه المجتمعات العربية من كبت جنسي وعدم تحرر من عقدة الجسد ومايخلّفه من أثار سلبية في نفس الفرد وفي تكوينه النفسي والعاطفي والسياسي.
وتثمن الكاتبة مفهوم الحب إذ يعدّ الحب ركيزة العلاقات بين أبطال الرواية فيمثل إما النعمة أو النقمة لدى جل الشخوص في الراوية دون إستثناء.
 
عن جمالية اللغة وبساطتها وتباين الشخصيات وتناقضها
 
طوّعت مية الكسوري اللغة لتجعلها بسيطة وحمالة المعاني في أن واحد، فاعتمدت الكاتبة لغة على غاية من الأناقة بمفردات بسيطة يسهل فهمها، فتجنبت استعمال العبارات المعقدة وخاطبت القارئ بمفردات سهلة الإستصاغة والفهم، فنجحت في إيصال المعاني للقارئ بسلاسة وفي أحسن صورة.
 
أمل وامال وهبه هن بطلات القصة، شخصيات تتباين أفكارها تباينا جذريا لتتشابه فقط في الازدواجية التي تعيشها كل شخصية، فكل منهن تعيش تناقضا فكريا وشعوريا يخلق داخلها عدة تناقضات أخرى. 
تخلق مية الكسوري علاقة بين الشخصيات التي يخيّل للقارئ حتى نهاية الرواية أنه لا علاقة بينها، لكن هنا يكمن عامل المفاجأة في القصة فتتجمع المتناقضات أخيرا بطرقية سلسة.
 
نهج أنجلترا إذن هي رواية ذات طابع نقدي سياسي أرادت الكاتبة من خلال تعرية الواقع الحالي وطرح تساؤلات ذاتية وموضوعية تبعث في القارئ الحيرة والتساؤل وتحرك ملكة النقد والتفكير لديه.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.