في الوقت الذي تفتح فيه المدارس أبوابها لعودة تلك البراعم المتعطشة إلى آخر قطرة من المعرفة في سلّة الوطن الذي قايضه الإرهاب بمدية القمع، والمتعطشة أيضا إلى آفاق جديدة غير تلك الروضات الملفعّة بغير قليل من مناهج تلقين الخرافة، هناك من يطلّ علينا باستعباد آثم، ويا للعار كيف نحصد رؤوسا صغيرة بقتلها؟ فثمّة من يطلق الرصاص في مدن بعيدة، وثمّة من الأطفال على غرار ايلان الكردي من داعبت جثّته الصغيرة موجة يقذفها زبد بحر بعيد، ولكن ثمّة أيضا في مدننا، أجل هنا في تونس، من يحاكم أطفالنا برميهم حذو ضفّة المهمّش، وذلك برسمهم في ثوب لا بشري، عبر اغتصابهم اقتصاديا، وحرمانهم من أدنى ظروف العيش، بل والسخرية أيضا من أقدامهم الحافية، وجواربهم الممزقة، وأسمالهم التي تعفّف عنها حتى أكبر الأنبياء.
ثمّة أكثر من ذلك، أبعد من هذا التجاهل، فقد ولد التشفّي، والتنكيل، وهاهي سيّدة متبرّجة يفاخر لا وعيها ووعيها بتشغيل فتاة قاصر كمعينة منزلية، بل وعمدت إلى تقديم شكوى برئيسة تحرير موقع إعلامي استنكر ذلك السلوك، ونبّه إلى خطورته، فهل بعد هذا الاصطبل البشري، الموغل في وقاحة لا قانون لها إلا خصينا إنسانيا، من قرف آخر؟
ثمّة ما هو أخطر من ذلك، إنّه صمتنا الدائم، استهتارنا الذي صار ضربا من ضروب الآلهة الجديدة بعد أن فقدنا كل قيمة إزاء الحياة، بعد ضياع كل نبتة في تربة قايضها الفشل الثوري بحفنة من ملح الرجعية في ثوبها الإرهابي وفي عباءتها القمعية، بعد ان صرنا خائري القوى في زمن يتطاوح بالدم، حتى أن كلّ ركن في دواخلنا صار مصنعا من اللامبالاة.
ولكن، بعد تصدّأ كينونتنا، نحن هذا الجيل المغدور بلعنة ثورة في قبضة السماسرة واللصوص، مغدورة كما لو أنها الآن سبيّة حرب، هل علينا الصمت أكثر؟ هل سنبقى نخبط في أودية عمياء مثل خفافيش بلا حاجة أنطولوجية في هذا الكون؟ هل سنضحّي مرّة أخرى بجيل جديد؟ هل لزاما علينا كل هذا الإهمال لهم؟ وكيف يصل الأمر عند حدود هذه المهزلة؟ وما الفرق بين إرهابي ضحوك وقاتل لا يجد نشوته إلا في رائحة الشواء البشري، وامرأة لا تخجل من حاجتها لخادمة هي طفلة قاصر بلا سند مادي كي تدرس، وبلا سند مادي كي تأكل؟ هل هكذا تورد الإبل في مطلع القرن الحادي والعشرين في تونس؟ ألا يعدّ ذلك السلوك قمعا وإرهابا واغتصابا اقتصاديا؟ وماذا أيضا عن كلّ تلك الوقاحة بعد ان قدّمت قضية ضد الإعلامية الناشطة في "اسطرولاب" التي تصدّت صحفيا لتلك الممارسات؟
يا للغرابة، فثمّة ضحك الآن، ضحك أسود الصوت، ساخر، مرّ، متهكم وعنيف، وهو ضحك له ما يبرّره حتما، خاصّة أمام القاضي أو المحقق، وتخيّلوا معي ماذا سيسأل؟ بل ماذا سيجيب لو سألته مثلا سندس زروق السؤال التالي:
– ماذا لو كنت ميّتا؟ وكانت ابنتك بدل تلك الطفلة/ المعينة المنزلية؟
– ماذا لو كنت فقيرا؟ بلا عمل، بلا أمل، لا معادن لك كي تشتري كرّاسا لابنتك، فوجدتها معينة لدى امرأة تأمرها وتستغلّها، أو ربّما تغسل لها حتى ملابسها الداخلية؟
ثمّة عزاء، عزاء وطني يتربّص بجيل جديد، فهل نبكيه منذ الآن بصمتنا الطويل، أم هل علينا إدانة مرعبة ومخيفة وقوية وجادّة نوجّهها إلى كلّ أولئك من تحوّلوا إلى خردة بشرية لم تعد تليق بما هو فعل نبيل وإنساني.