“نجمة الصبح” لجود سعيد: عن جمالية الموت في سوريا

يسرى الشيخاوي- 

الوطن ذاكرة وذكريات، وجد ووجدان، الوطن وشم في شرايين القلب وسكن الروح، الوطن حلم يزيّن زوايا العقل الباطن، الوطن جنّة تحفظ العين تفاصيلها لتكون رفيقتها إذا حضر الموت، وسوريا وطن أعظم من الحياة وأبعد من الأمل، وطن يصنع من الخراب زينة ويجعل للموت جمالية.

سوريا الجريحة في كبرياء، تتوالى عليها الطعنات من كل الجهات ولكنّ رائحة ياسمينها الدمشقي صامدة في وجه رائحة الدم، سوريا الوجع الذي يخلق معاني جديدة للحياة، سوريا التي تجعل من الدم أحمر شفاه تزيّن به فم الموت، هي سوريا التي صوّرها المخرج جود سعيد في فيلمه "نجمة الصبح" المشارك في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية.

مشاهد صادمة ومربكة يصوّرها جود سعيد ، خيوط من الدم وآهات مكتومة وعبرات ظلت طريقها وصرخات محبوسة في أعماق الأفئدة ووجع وأشلاء وضحكات تسخر من الموت الساكن في كل الزوايا والتفاصيل، ضحكات تشبه البكاء الهستيري.

وأنت تشاهد الفيلم تتسلل رائحة البارود والمتفجّرات إلى أنفك قبل ان يبلغ صدى الانفجار أذنيك، وذلك البكاء الصامت لأب استشهد ابنه في غارة مسلّحة يهزّ كيانك، أب يبكي قلبه دون هوادة حتى يشفق عليه الموت، وزوجة الشهيد تكذّب القدر وتهمس لجنينها أن والده حيّ، ووالدها يمسح الحزن عن قلبها وأختها التوأم تبكيها وتغازل حبيبها في غفلة من الحرب، صراع بين الحياة والموت والوجود والعدم وفي خضمه تزهو سوريا بمعالمها وزينتها، جميلة هي حتّى في خرابها.

ولأن سوريا ربّة الفرح، ولّى زمن البكاء على الشهيد وصدحت الحناجر بالغناء في عُرس شابين من الضيعة، الفرح يسكن الأعين ويرتسم على الشفاه والإيقاعات تملأ الفراغات التي خلّقتها الانفجارات، وعويل شقيقة الشهيد يقطع خيط الفرح، إنّه الحزن من جديد فقد مات والد الشهيد..

وكأن صرخات الإبنة لفقد والدها جذبت إلى مكان الفرح صواريخ أو قنابل، وماتت الإيقاعات على يد الدوي وتخضّب فستان العروس بدمها ورحلت عن العريس ساقيه ولم يتوقّف عن الغناء لحبيبته حتّى مات شامخا كشجرة، وخطفت الجماعة المسلحة نساء الضيعة وقادتهم إلى معتقل تنتفي فيه كل تمظهرات الإنسانية.

في الطريق إلى  المعتقل تتعكّر حالة زوجة الشهيد وتعانق الموت محتضنة جنينها، وتظل اختها التوأم حيّة على قيد الموت تخفي هويّتها وراء جثّة أختها حتى لا يتفطّن إليها "أمير" الجماعة وينكّل بها انتقاما من حبيبها وشقيقه، فالحرب في سوريا تبعث قابيل وهابيل أحياء من جدد ويفعل الأخ في أخيه الأفاعيل.

"خلدون" و"عارف" أخوان جمعتهما رحم واحدة وحملتهما بطن واحدة وفرّقتها الحرب، أحبّا التوأم "نسمة" و"نجمة الصبح" وظلّت السبل بينهما تتباعد إلى أن انقطعت بعد أن اختار عارف طريق الدم، وتزوّجت " نجمة الصبح" من "منصور" الشهيد الذي استهدفه "عارف" انتقاما، وما خطف نساء الضيعة إلا للتشفي في الأختين التوأم، ولكن القدر شاء أن تموت "نجمة الصبح" وتظلّ حلم لن يصل إليه "عارف" مهما حاول.

وفيما "نسمة" تتخفّى وراء هوية أختها و سط صمت من النساء المرافقات لها، ينكّل عارف بـ"لبنى" أخت منصور ويصلبها ويتفنّن في إرهابها، وفيما "خلدون" يجاهد من أجل استرجاع "لبنى " و"نجمة" كما كان يظن ويعود الشهيد "منصور" إلى الحياة من جديد وبعد فرح قصير يُفجع في زوجته وابنه، وتصبح دموع الفرح دموع وجع وفراق.

ووسط الحرب تتلألأ شرارات الحب لتمحو آثار الدم والدمع أو ربّما لتكثّفها، فقد قايض "عارف" شقيقة على كليته مقابل فك أسر "نسمة" ولم يتردّد "خلدون"، وفي الأثناء هربت "نسمة" وذهبت الكلية هباء منثورا، ومات "عارف" بطلقة من مسدس ابن شقيقته التابع له، قتله غيرة على ابن خالته الذي ذبحه من الوريد إلى الوريد بتهمة الحب، وظلت " نسمة" تنتظر حبيبها عند تلك الشجرة التي حفرت اسميهما على مر السنين والفصول.

وسوريا تشبه شجرة الحب تلك، تتهاطل عليها النوائب وتنخرها الصواريخ والقنابل ولكنّها تظلّ شامخة أبية حالمة يسكنها الأمل تماما كنظرات " نسمة" وهي تتطلّع إلى الأفق البعيد جدّا كحلم البعض في النيل من سوريا، ليظل المخرج جود سعيد وفيا لرؤيته الفنية التي تعلي راية الأمل مهما ارتفع فيها منسوب الوجع والألم.

وفي "نجمة الصبح"، حديث عن الفقد والألم وقسوة الترقّب وحكايات فقراء لا يملكون غير قلوب تضيء العالم من حولها، وسجال بين الحياة والموت نقلته كاميرا المخرج بأسلوب بعيد عن المباشرتية، أسلوب يولي أهمية لجمالية الصورة، جمالية صنعت هالة من الألق حول الموت.

والفيلم الذي أدّى فيه أدوار البطولة كل من حمد الأحمد، وحسين عباس، ولجين اسماعيل، ونسرين فندي، وسارة صدقي وناديا صدقي، جعل من معاناة النساء مرآة للحرب السورية بأسلوب بعيد عن البكاء، إذ غلب على الحوار في الفيلم أسلوب الكوميديا، كوميديا تثير دمعك أكثر من التراجيديا، هي رؤية المخرج الذي يسائل الموت في كل مشهد وكل صورة.

 

 

 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.