من “كرنفال” إلى “طرڨ”.. “راست انجلة” يرسم ملامح الفرح على وجه بنزرت

يسرى الشيخاوي-
 
في ميناء بنزرت القديم، ترسو القوارب على وجه الماء وتتهادى فتظهر أسماؤها المؤنّثة في الغالب، وعلى جنباته يختال الأناس بعضهم يتأمل تفاصيله وبعضهم الآخر ينشد مكانا يسترجع فيه أنفاسه.
 
سماء تنشد الصفاء بعد يوم أبرقت فيه وأرعدت، وجفون الشمس ترتخي تأهبا للمغيب، وألوان الكرنفال الذي يشرف عليه محمد بركاتي تزيد المشهد شاعرية، "كرنفال" انطلق من امام مقر ولاية بنزرت ليصل المرفأ القديم الذي صار لوحة مرئية ومسموعة اشرأبت إليها العيون لتصافح ألوان الحياة  وموسيقاها.
 
فيسفساء من الألوان والألحان..
 
عربة زيّنتها ألوان مختلفة تحاكي الحياة بكل تلويناتها وتقلباتها تنذر بقدوم الكرنفال إلى الميناء القديم لتتبعها فتيات تحاكي حركاتهن تفتّح براعم الأزهار، يقفزن ويعانقن الأثير بأياديهن ويلامسن خيزط الشمس الخجولة.
 
على امتداد الميناء، لا تقع عينيك إلا على الألوان التي زادت المكان ألقا، فالألوان لم تشمل الازياء فحسب بل امتدت إلى الرقص والموسيقى فالتقت الموسيقى الغربية بموسيقى السطمبالي القادمة من عمق تونس، وامتزجت خطوات الرقص العصري بخطوات بوسعدية الباحث عن ابنته.
 
في مسار واحد تتماهى الثقافات المتناقضة وتنبعث في المكان موسيقى تتوحّد فيها ايقاعات الشقاشق والطبل مع ايقاعات الغيثار، إيقاعات تشبه الحياة في اختلاف تفاصيلها وثرائها وتعكس تفرّد تجربة مهرجان "راست انجلة".
 
ومهرجان "راست انجلة" للموسيقى البديلة ينشد المختلف ويصنع منه عروضا فرجوية تخاطب كل حواس المتفرّج، وبعد أن زيّنت فسيفساء من الألوان والألحان الميناء القديم كان الوافدون عليه على موعد مع موسيقى قادمة من عمق التراث التونسي، موسيقى أصلها ثابت في الجنوب التونسي وتحديدا قفصة وفرعها ممتد إلى بقية الجهات.


نغمات بدوية تنشد العالمية..
 
 هم مجموعة من العازفين الشبان عشقوا النغمة البدوية واختاروا أن يحلّقوا بها خارج حدود الوطن، حافظوا على سماتها ومقوماتها في رحلة انفتاحها على موسيقات أخرى على غرار الموسيقى الافريقية والجاز، ليكون "طرڨ" اسما لهذا المشروع الموسيقي.
 
في ميناء بنزرت القديم، كان الجمهور على موعد مع موسيقى بدوية بلمسة شبابية، تلتقط فيها الأذن موسيقات مختلفة تسافر بك إلى عوالم مختلفة حيث ترافقك النغمات البدوية متخطّية كل الحدود، ومستعيدة ملامح الفرح في سنوات خلت.
 
تسعة شبان تسلّح ثمانية منهم بآلاتهم الموسيقية فيما تسلّح تاسعهم بصوته البدوي، وتسلّج جميعهم بعشق الموسيقى البدوية ليعلنوا انطلاقة الأجواء الاحتفالية في المكان، وما ان انبعثت النغمات الأولى حتّى استسلمت الأجساد للرقص، وكأن ذاكرة الموجودين استحضرت أهازيج الفرح التي تزين "النجمة" و" المحفل" والأفراح بمختلف تجليّاتها.
 
امتداد في الهوية الموسيقية والموروث الغنائي التونسي، وتطلّع إلى أفق تصدح فيه الموسيقى التونسية البدوية في العالم، زاد المشروع الموسيقي الذي غاب عنه أحد مؤسسيه المغنّي وعازف الناي فوزي سوداني لالتزامات مهنية أخرى، وهذا الغياب لم يمنع صاحب فكرة المشروع  نسيم بلحسن من أن يحيي رفيق دربه الموسيقي.
 
على إيقاع "الطرڨ"، وما يحويه من أسرار القبائل وملاحم الحب والبين ولقاءات العشاق، صدحت حنجرة شوقي الهنشيري بأغان أعادت المجموعة توزيعها موسيقيا بأسلوب اختلطت فيه النغمات البدوية والغربية دون نشاز.
 
"سوج الحمام" و "سعد ي شوشان" و"مرض الهوي قتالة" و"صالح يا صالح"، ردّد الهنشري كلماتها دون أن يمس من اللهجة من الأصليّة، غنّاها كما وصلته بأصوات حفظتها في رحلة النبش عن الموروث الغنائي التونسي.
 
وان كانت انطلاقة المجموعة الموسيقية التي تأسّست سنة 2017 بدعوة من عازف الباص نسيم بلحسن ودعمتها جمعية "الجاز بتونس" بالتراث الغنائي لجهة قفصة، فإنّها احتفت أيضا  بتراث الشمال الغربي وأضفت عليه روحا شبابية لم تطمس بعده التراثي.
 
على ركح مهرجان "راست انجلة"، توزّعت الموسيقى بطريقة انصهرت فيها يقاعات البندير والطبلة والزكرة والمزود والقيتار والدرامز والكلافيي والناي والباص، ونفخ قطيبة الرحالي من روحه في الناي، وتوحّد وجد بلحسن مع الدرامز فخلق إيقاعا حماسيا، وداعبت أنامل شكري الداعي الكلافيي فانسبات منه نغمات رقيقة، وغازل نسيم بلحسن الباص فانبعثت منه نغمات متمرّدة لتلتحق به تغملت الغيتار الثائر إذا لامس التشادي "برتران مايلر، أمّا إيقاعات الفرح فيرسمها كل من محمود النايلي ونادر طرشونة  إذا ما صافحا وجه الطبل والبندير.
 
وقبالة الركح، ترقص الأجساد على وقع " المزود" الذي طوعته أنفاس العازف كيلاني اللواتي فانبعثت منه أنغام لا يمكن مقاومة اغرائها بالرقص، وأطلق الجضور العنان لأجسادهم ورقصوا على أنغام ترشح فرحا وأغان تعيد إلى الذاكرة الاعراس في أرياف تونس وطقوسها البسيطة، لتكون موسيقى " طرڨ" تذكرة عبور لأزمنة جميلة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.