“مشى في العفس” لـ”Tiga Black Na”.. حينما يكون الفن امتدادا للاحتجاج والرفض

يسرى الشيخاوي- 

هل جرّبت يوما أن تمرر أناملك على جراح تونس المفتوحة؟ هل حاولت أن تعدّ تلك القضبان التي تزين سجنها المفتوح؟ هل تخيلت ان تنطق بقهر المظلومين والمنسيين؟ هل خبرت معنى الحياة على قيد الموت؟ قد يبدو التفكير في الأمر مربكا ومرهبا ولكن "Tiga Black Na"لم يتردد وهو يحاول أن يدس يده في ندوب كثيرة ذروا عليها قشا ولكن الريح عرتها.

بين تفاصيل واقع تونس الموجعة، تنقّل عبر الموسيقى والكلمات والصور في تفاصيل تونس الموجعة ونطق بشكوى من خنقوا أصواتهم وكبلوا أياديهم حتى لا يكتبوا صرخات الرفض والاحتجاج، وكانت الأغنية المصورة "مشى في العفس" امتدادا للاحتجاج والرفض. 

وأنت تتأمل العنوان وتنطقه مرارا تقفز أمامك كل تلك الاحداث التي عاشت على وقعها تونس وراح ضحيتها الكثيرون دون ذنب يذكر، ضحايا الخبز المر في معمل الاسفلت وفي مرتفعات السلوم والمغيلة وضحايا الاحتجاجات والحجر الصحي والعمليات الإرهابية، وشهداء الثورة وجرحاها، والموقوفين في الاحتجاجات الاخيرة.

كثيرون " مشوا في العفس" وسقطوا من ثقوب الذاكرة، بعضهم صاروا اسماء على لافتات الأنهج وبعضهم انتهى ذكرهم بانتهاء الحادث وبعضهم ظل رقما في سجل الوفيات وبعضهم صار سجلا تجاريا يتزايد عليه هواة الاستثمار في الموت.

هو بوح الذوات المتألمة نقله "Tiga Black Na" المتسلح بالفن والموسيقى في نقله رسائله الموشحة بالغضب والتمرد على الواقع الذي غشّاه السواد وتعب فيه الامل ولكنه ظل يقاوم.

هي شكوى تتجاوز الكلمات والألحان والصور وتتخطى كل الحدود والاوتاد التي تحمل السجن المفتوح وتعري زيف الواقع وتضع أصابع على العلل التي نخرت الوطن واوجعت الإنسان فيه.

وجع الشعور بعدم الانتماء إلى وطن يسكت صوت الحرية فيك ويلفظك في ذروة بحثك عن معاني الإيواء والاحتواء، وطن يسير فيه الحق والحرية في خطان متوازيان لا يلتقيان.

وأنت تلاحق المغزى بين كلمات الأغنية، يسري الغضب قي روحك وفكرك ووجدانك ويتسلل الوجع عبر عينيك وأذنيك وتتصارع المشاعر المتناقضة داخلك، ويعانق الوجع الأمل، تغالب الدمع وانت تلامس الحقيقة العارية وتبتسم لأن البعض مازال يتنفس حرية.

 "هاو ڨالك السكات حكمة، هنا كلام فيه برشا نقمة، وإلي عامل روحو يشم في النسمة، و إلي عامل روحو يحسب في القسمة… هاو ڨالك السكات من ذهب، هانا نشوفو في الشعوب إلي ڨاعدة تقلب، هانا نشوفو فيك تسرق وتكسب، هانا نشوفو فيك تفك وتنهب…هاو ڨالك السكات مسمام، حتى كي تتكلم تنجم تقدم القدام، تاخو حقك ولا تموت كيما صدام، تاخو حقك ولا تعيش تموت مضام… هاو ڨالك السكات خداع، كان تشد صبع تنجم تخلط للذراع، كان تخلط مخّر تلڨى بايك تباع، كان تخلط مخّر مالأول تاخو ورقة الوداع.. مشى في العفس، هذايا هو حال بنادم اليوم الناس الكل تعكّز.. مشى في العفس، ماو ڨلنالو مالأول أخزر قدامك و ركّز… مشى في العفس، كلاه الخوف معادش ينجم يتنفس."
 كلمات الأغنية تختزل واقعا صار فيه الكلام تهمة، واقع بلد يتتالى فيه الحكام لكن الوضع فيه على حاله لا يتغير، "السيستام" نفسه والماكينة ذاتها تستنسخ الراهن وتئد كل رغبة في التغيير.
لكن تظل المقاومة تسكن العيون التي أعياها السهر والتفكير والعروق التي غلت فيها الدماء، مقاومة السوداوية وتجليات الموت التي تتناسل من رحم التهميش والتجويع والتفقير، وفي الحبل الذي يتدلى طيلة "الفيديو" إحالة إلى الموت ذي الوجوه الكثيرة.
وإن كانت الكلمات تحتزل الغضب والحنق على السلطة وتعكس أصوات المحتجين فإن المشاهد التي أوجدتها المخرجة سندة الجبالي كانت هي الأخرى تعبيرات عن وقع القمع في النفوس وعن الدفع في اتجاه الموت.
الكرسي وربطة العنق حاضران في الصورة، ولعل فيهما إحالة إلى أولائك المسؤولين العاطلين، يتدلى بينهما حبل يتراقص ذات اليمين وذات الشمال وكأن في حركاته محاولة لتنويم الناظر إليه مغناطيسيا.
في الواقع تلف السلطة الحبل حول رقاب المواطنين بطرق مختلفة، حتى أن بعض المواطنين يلفونه بأنفسهم ويتخذونه عقدا يتباهون به، والسلطة ذاتها تمعن في إلهاء هؤلاء المواطنين عن قضاياهم الحقة ولذلك أثر التنويم المغناطيسي في العقول التي ألفت الزيف والكذب والوعود الواهية.
وان اختار البعض الجلوس على الربوة دون أن يكبّد نفسه أي عناء، اختار آخرون ان يصدحوا بالحرية غير عابئين بما سيبذلونه من أثمان، على أمل أن يحل يوم بلا "مشى في العفس".
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.