مسرحية “موجيرة”.. نهاية “الريّ”

 يسرى الشيخاوي- 

 في حمام الانف حيث يعبق عطر الجبل وريح البحر، في فضاء بولاريس " Polaris" المطرّز بالحياة والحكايات التي ترويها الأشجار والنباتات والاوراق المتناثرة في الأرجاء، تشكّلت ملامح عرض مسرحي تنقطع معه الانفاس على إيقاع الثأر ويسكت الضوء عن الكلام ويعزف الدم لحن الوداع.

قبل الولوج إلى قاعة العرض تعلق عيناك بتفاصيل شجرة ضاربة في القدم تآكلت غصونها ولكنها جذورها مازالت مفعمة بالحياة، من الجذور إلى قطع القماش المتدلية من لوحة تعانقت فيها ألوان كثيرة ترحل أنظارك.

مغرية هي تفاصيل هذا الفضاء الثقافي تماما كالعرض المسرحي الذي يحتضنه، عرض يغويك بالانغماس في تفاصيله قبل انطلاقه وتتمنى لو تختفي المسافة الفاصلة بينك وبين مكان العرض وأنت تصغي إلى تساؤلات مخرجه رحيم البحريني إلى الحاضرين " من لديه فوبيا من القطط ومن الظلمة ومن الأماكن المغلقة؟" 

مع أسئلة المخرج يتصاعد منسوب التشويق والإثارة لرؤية مشاهد مسرحية " الموجيرة"، وتلك الأيادي التي تركت أثارها بلون البن والدم حذو الباب الذي يؤدي إلى الركح تغري مخيّلتك وأثار الدم على الأرض تستدرّ الأسئلة.

دون تفكير تلقي بجسدك على المقاعد الخشبية في خلفية الغرفة التي غدت ركحا مغايرا ومختلفا، وأنت تفكّر في أسئلة المخرج تقول العتمة قولها وتحاول أن تقتفي أثر أناملك ولا تقدر.

في الأثناء، يسترسل صوت تسري بك نبرته في عوالم "موجيرة" وهبت عمرها لـ"ري" لم يعبأ لكل تضحياتها وهي التي أقدمت على الكثير من أجل أن تكون معه وله، إلا أن كل ذلك لم يشفع لها لديه، فهو ليس إلا امتدادا لمجتمع ذكوري لن يقوى على هدم ثوابته.

على إيقاع حكاياها تشتد العتمة وتتجلى ملامح الملحمة التي خاضتها وحيدة على قارعة الانتظار، في الواقع لا حاجة إلى النور لتلامس جراحها المفتوحة والصارخة وجعا وانتقاما.

وقائع كثيرة روتها "الموجيرة" من اقتناص لحظات الوصال مع "الري" في غفلة من المجتمع إلى ثمار عشقهما التي قًطفت قبل أن تينع وسفره إلى الخارج لإنهاء دراسته وتهاطل الراغبين في الزواج منها وانتهاكها لجسدها حتى لا يعجبهم ورغبتها في الانتحار واحتساءها لقدح من سائل التنظيف.

تضحيات كثيرة بذلتها من أجل أن تكون معه ولكن مشيئة المجتمع كانت أقوى من رغبتها فما عاد للشوق معنى وصار الانتقام عنوانا للقائهما، هو انتقام إمرأة هزت عرش الذكورية وهي ترسم نهاية رجل أراد أن تكون عابرة في حياته فعبرت به إلى العالم الآخر.

ووسط الظلمة الحالكة تتسلل بعض خيوط الضوء لتسقط على تفاصيل غرفة التعذيب التي تزين السكاكين وبقايا الدماء تفاصيلها وتقطع آهات "الري" الأسير وصلة الذكريات التي تبعثرها "الموجيرة" وهي تمعن في تعذيبه.

في ظاهرها تروي المسرحية انتقام إمرأة، ولكنها تحمل في تفاصيلها إحالات كثيرة عن السياسة وعن المجتمع وعن الثقافة وعن الدين، هي مساءلة لكل الثوابت ومحاولة لهدمها وإعادة إنشائها بتصور آخر.

الوصايا على الآخرين، والإيمان الكاذب بالحرية والديمقراطية، والعادات والتقاليد البالية، علل تنخر المجتمع عرتها المسرحية بأسلوب قد يبدو فيه العنف مبالغا فيه ولكنه في الواقع أخف وطأة من العنف المسلط على الأفراد في المجتمع بذنب الاختلاف.

في الغرفة الضيقة لازمن ولا أسماء، فقط حكايات تصادفها خارج العرض بتفاصيل مختلفة، حكايات ترويها "موجيرة" عن نص لعبد الوهاب الجملي غلب فيه التلميح على التصريح وكانت كلماته طريقا إلى تجربة حسية وجودية.

تجربة مختلفة عن سابقاتها، لاختلاف فضاء العرض ولاختلاف عناصر السينوغرافيا والأسلوب الاخراجي الذي يخاطب العاطفة والعقل والباطن عبر تفاصيل  تخترق العين والأذن وتتسلل الى الدواخل دون إيذان.

وفي تقمص سنية زرق عيونه وسيف الدين رقام لدوريهما مسحة من التناغم والانسجام أضفت على العرض متعة وقطعت الطريق أمام تسرب الملل، وفيما كان صوت الممثلة حاضرا يروي الحكايات والتفاصيل ويترجم الوجع والثأر لم ينبس الممثل بكلمة واحدة ولكن إيماءاته وحركاته كانت متسقة مع الممثلة.

أما الأداء غير اللفظي للممثلين كان مقنعا ولافتا  إذ يترجم التماهي بين المخرج والممثلين وقدرة المخرج على استنطاق تعبيرات الممثلين وهو الذي جعل من قط ولد في الفضاء جزءا من العرض.

والعروض الأولى للمسرحية التي تظافرت كل عناصرها من النص إلى الأخراج فالأداء والسينوغرافيا لتخلق عملا فنيا يثير فيك التأويل والتفكير انكلقت اليوم الجمعة لتتواصل يومي السبت والأحد بفضاء بولاريس بحمام الانف.

 

 

 

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.