مسرحية “المجهول”.. إلى أين المسار؟

يسرى الشيخاوي-
الركح في قاعة المبدعين الشبان بمدينة الثقافة يغرق في العتمة، وموسيقى تحاكي صافرات الإنذار تتماهى مع انفاس الجمهور وصوت قصف يدوي حتى تخال أن الجدران ستتصدع من شدّته.
ومن بين خيوط الظلام يظهر رجل لن تتبين ملامحه من الوهلة الأولى ولن تخمن من هو طيلة صمته، رجل يحمل في يده أداة ما يحاول أن يتفحص عبرها الطريق ويمضي دون خطة تذكر، بل ربما هو يحوم في ذات المكان ويتساءل "إلى أين المسار".
خطوات كثيرة يخطوها بلا وجهة معلومة، وحينما يخفت وقع أقدامه يعلو صراخه ويسقط أرضا ينتفض وينتفض، يتبادر إلى ذهنك أن روحه غادرت جسده ولكنه لا يلبث ان يتحرك ليستمر في الرحلة نحو المجهول.
هو "العايش" بطل مسرحية "المجهول"، وهي من تأليف وإخراج ناصر العكرمي وسينوغرافيا نزار الجبالي وتمثيل ناصر العكرمي، وصابر السعيدي، وحاتم حمودة وموسيقى وليد البريني وملابس يسرى المزوغي وكوريغرافيا عبد العزيز التواتي.
في اتساق مع عنوان المسرحية، تنفتح المشاهد في كل مرة على المجهول لتخلق نوعا من التشويق الذي غذته المواقف الكوميدية التي وشحت تفاصيل العمل المسرحي وخففت من طرحه الوجودي التراجيدي.
وحتى اسم الشخصية لا يخلو من دلالات فالاسم المشتق من العيش، صاحبه يقارع الموت في تجليات كثيرة ويبدو أن الموت يلاعبه حتى أنه الوحيد الناجي من كارثة حلت على الإنسانية.
وحيدا شريدا، يناجي الفراغ ويستأنس بذكريات بطعم العلقم وهو يبجث عن أنيس أو رفيق يواسيه ولا تؤدي رحلة البحث إلى أية سبيل واضحة المعالم ويطبق الملل على أنفاس "العايش" ولكنه لا يموت بل يزوره الموت على هيئة ذكرى سيئة لا تغادر رأسه.
وإن تستشرف المسرحية واقع تونس وربما العالم بعد سنوات من حلول الكارثة التي قد ترتبط في ذهنك بالجائحة التي زعزعت الإنسانية، فإنها أتت على بعض المواضيع التي كانت حديث التونسيين.
عن التداين الخارجي وصندوق النقد الدولي، وملف النفايات الإيطالية والصراع بين الأحزاب وشطحات النواب وسقوط الأطفال في البالوعات ووفاة الرضع تحدّثت المسرحية بأسلوب ساخر يدفع في أغلبه على البكاء.
صراع داخلي وتوتر نفسي يطغيان على تفاصيل "العايش" وهو يبحث عن منفذ وينسج في كل مرة السيناريو تلو السيناريو لعله ينجو مما بعد الكارثة ولكن يبدو أنها صارت بعضا منه ولا سبيل إلى الخلاص منها.
وعلى إيقاع الأسئلة التي يلقيها على نفسه ليقطع الطريق على السكون القاتل من حوله تهطل الذكريات التي لا حلو فيها وييقن ان ماضيه كحاضره وأن لاشيء تغير باستثناء أنه يحمل على عاتقه عبء كل الذين عبروا رغم أنه لم يختر النجاة بمحض إرادته.
هو صراع الفرد داخل المجتمع، وصراع المواطن داخل الدولة، وصراع الإنسان حيثما كان، تحكيه المسرحية بأسلوب تطغى عليه الدراما وجاءت فيه الكوميديا لتكسر حاجز الوجع الذي بنته الحقيقة التي تسربت من بين ثنايا النص.
وبين واقع "العايش" المطرز بالفراغ والوحدة وبين كوابيسه التي تنقل إلى المتفرج بعضا من ماضيه، تتأرجح الأحداث بين فضائين أحدهما واقعي والآخر افتراضي، وإن يبدو لك في الوهلة الأولى أن العمل المسرحي مونودراما فإن ظهور شخصيات أخرى يقوض هذا الظن ويضفي متعة أخرى على العرض.
وفي ثنايا الفراغ والوحدة كان الجسد ناطقا بحكايات كثيرة، مرنا في حركته بين الفضاءين المتناقضين متحكما في حركة الضوء الذي يذل وسط العتمة ليحيل إلى ذلك الامل الذي لا يتلاشى مهما كان حجم الكارثة.
*صورة: حسان فرحات
 
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.