18
بقلم سمير عبد الله: أستاذ ومختص في علم الإجتماع-
إن العودة المدرسية في بداية كل سنة تربوية لا تهم فقط التلميذ و أسرته، بل أن هواجسها والمخاوف المترتبة عنها وما تسببه من قلق تهم كذلك الإطار التربوي و بقية العاملين بالمؤسسات التربوية بمختلف صفاتهم.
في أحد الأيام كنت في نقاش ودي مع بعض الأصدقاء والزملاء القدامى في التدريس حول واقع المناخ التربوي، صرح لي أحدهم أنه رغم ممارسته لمهنة التدريس لأكثر من عقدين من الزمن، إلا أنه قبل العودة المدرسية تراوده أحلام ومخاوف، حيث يشاهد نفسه أمام التلاميذ أثناء حصة الدرس وقد فقد السيطرة عليهم تماما، ولم يعرف كيف يعيد النظام والهدوء إلى قسمه مجددا.
هذا التصريح كان له صدى في نفسي، ذكرني بالسنوات التي أمضيتها أستاذا للتعليم الثانوي و الإعدادي بمناطق مختلفة من البلاد ، وعادت بالذاكرة لما عبر عنه الزملاء من مخاوف و هواجس تخص العودة المدرسية و تأكد لي أنه بقطع النظر على أقدمية المربي المدرس و قدرته على التحكم في القسم أثناء سير الدرس، تبقى الأيام الأولى للعودة المدرسية لحظة مقلقة لجميع الأطراف ذات العلاقة بالمجال التربوي.
لقد تذكرت كيف كان الزملاء، عندما تكون حصص الدرس قبل حصصهم مباشرة لنفس التلاميذ، يسألونني حول نوعيتهم و سلوكهم وهل يوجد من بينهم مشاغبين خاصة إذا كانوا جدد بالمؤسسة، وكنا نتشارك التجارب والآراء ونتناصح حول كيفية التصرف في القسم وكانت آرائنا أحيانا مختلفة ومتناقضة حيث لكل له طريقته ووسائله الخاصة لفرض الإنضباط من أجل أن يؤدي رسالته التربوية بكل سهولة ودون إشكاليات.
إني على وعي بهذه الإشكالية وآثار القلق الذي يعانيه المدرس ورغبته في أن تكون إنطلاقة السنة الدراسية مع التلاميذ الجدد جيدة دون أخطاء، حيث أن الحصص الأولى أثناء العودة المدرسية تحدد العلاقة بين المدرس والتلميذ على إمتداد بقية السنة التربوية. فالإنطباعات الأولى تكون الأساس الذي سيحدد علاقة التلميذ بالمدرس، فإن كانت غير جيدة تكون لها آثار سيئة يصعب تجاوزها ومعالجتها لاحقا.
إن الخطر يكمن في إرتكاب اخطاء لا نعي تداعياتها أو أننا غير مقتنعين أصلا أنها أخطاء لا بد من تجنب الوقوع فيها، حيث أن العديد من التصرفات في القسم كنت أقوم بها ولم أدرك أنها أخطاء إلا بعد أن غادرت مجال التدريس إلى مجالات أوسع وتشبعت نظريا وميدانيا في مجالات مجاورة تهتم بالطفل بصفة شاملة في إطار المقاربة الحقوقية وتعمقت في مجالات التواصل الإنفعالي وغيرها، انكشفت لي الحدود بين ما هو نظري و بين ما هو واقعي وقابل للتطبيق ونعيشه بصفة يومية في الممارسة للفعل التربوي.
في هذا الإطار رصدت مجموعة من الأخطاء، أرى حسب نظري، أنها شائعة ممكن الوقوع فيها أثناء الأيام الأولى للعودة المدرسية وتؤثر سلبا على نوعية العلاقة بين المدرس والتلميذ مما يجعل المناخ التربوي غير ملائم لتحقيق الأهداف التربوية المنتظرة.
1-أن تكون مفرطا في السلطوية.
العديد من المدرسين يعتقدون أن لفرض الإحترام يحافظون على مسافة هامة مع التلاميذ و يظهرون البأس و الشدة و يفرطون في إبراز سلطتهم و حتى التعسف في إستعمالها ، فتكون وجوههم ممنوعة من الإبتسام في القسم و عبوسين و يردون الفعل على أبسط سلوك يرون أنه خارج عن نطاق الدرس ردا شديدا.
في الحقيقة أرى أن المدرس من خلال هذا الموقف يبحث عن إخافة التلاميذ وإخضاعهم من خلال إرساء صورة المدرس الذي لا يتسامح، مما يجعله مهاب. لكن هذا من الممكن أن تكون له آثار سلبية على البيئة التربوية داخل القسم و على العملية التربوية و من أبرز نتائج ذلك نذكر:
– من النادر أن يكون للمدرس نفس السلوك داخل و خارج القسم و في حياته اليومية والعادية، وبالتالي تجده يتصنع السلوك المتميز بالسلطوية في القسم، لكن التلاميذ سرعان ما سيحسون بذلك ويفهمون أن سلوكه السلطوي هو سلوك مصطنع.
– يدخل المدرس والتلاميذ في علاقة صراع من أجل السيطرة وفرض القوة مما يلحق ضررا على المستوى النفسي بالمدرس. حيث يكون دائما متحفزا وعلى إستعداد للرد بعنف.
– تصبح ساعات الدرس مرهقة و مستنزفة للجهد مما يؤثر على صحته تأثيرا سيئا بمرور الوقت.
-يصبح المدرس أثناء حصة الدرس في وضعية دفاع ، حيث يرى التلاميذ بمثابة التهديد له ، مما يدل على إهتزاز ثقته بنفسه و على قدرته على إدارة القسم.
-الموقف السلطوي المفرط الذي يظهره المدرس في اليوم الأول للسنة الدراسية لا يساعد على بناء وتكوين رابطة إيجابية وآمنة مع التلاميذ وتخلق لديهم إنطباع على أنه مدرس سيء. فهذا الأخير عندما يكون ودودا ومنشرحا خلال الحصص الأولى للعودة المدرسية لا ينقص ذلك من سلطته ويقلل من احترامه بل يساعده على ضمان سلطته التربوية وإرسال رسالة للتلاميذ على أنه كفء وقادر على إدارة القسم وفرض النظام والإحترام دون الحاجة إلى لعب دور الأستاذ الصعب.
2- المسافة بين المدرس والتلميذ داخل القسم
من الخطأ أن يكون المدرس أثناء حصة الدرس ملتصقا بمكتبه و السبورة ولا يغادر تلك المسافة الفاصلة بينه و بين التلاميذ. يتردد العديد من المدرسين على تجاوز ذلك الخط و المسافة الوهمية الخاصة بهم، حيث لا يغادرون مكاتبهم وأحيانا تجدهم جالسين طيلة حصة الدرس. إنه من الضروري تجاوز تلك المسافة وعبورها أثناء الدقائق الأولى من الدرس وخاصة أيام العودة المدرسية والتنقل في كامل مساحة القسم لتذكير التلاميذ بأن فضاء القسم تحت تصرفه وهو صاحب السلطة في ذلك. وكذلك ليكون أكثر قربا من التلاميذ وأكثر يقظة ومتفطن لكل ما يدور حوله في القسم.
3- الإنطلاق في الدرس والتكلم بسرعة أثناءه
تذكرت يوما من أيام العودة المدرسية في السنوات الأولى التي باشرت فيها مهنة التدريس ، حيث كنت أعتقد أن الحصة الأولى صارت على أحسن ما يكون ، إلا أنه أثناء فترة الراحة إلتحقت بي تلميذة في ساحة المعهد و بكل لطف أخبرتني أنها لم تقدر على متابعة الدرس و لم تفهم ما قلت لأني كنت أتكلم بسرعة كبيرة حسب رأيها.
لم أجد أي تبرير ودون نقاش وضحت لها الأفكار الأساسية للدرس، كما أدركت أني كنت أتكلم بسرعة ولم أجد من تفسير لذلك سوى أني كنت متوترا وحاولت إخفاء ذلك و لكي لا أترك أدنى فرصة للأحاديث الجانبية. وبمرور السنوات أدركت أن التلاميذ يتقنون إلتقاط الرسائل الإنفعالية اللاواعية من خلال تواصلنا اللفظي وغير اللفظي.
لذلك من الضروري أن نتحدث أثناء الدرس ببطء و بأريحية و نأخذ الوقت اللازم في التفسير مراعاة لإختلافات بين التلاميذ في قدراتهم على الإستيعاب و الإدارك وإحتراما لنسق كل منهم للتعلم. لذلك لابد من خلق روتين داخل القسم يمكن المدرس من النجاح في وظيفته و توفير الوقت و الطاقة على مدار السنة الدراسية.
4- السكوت عندما يجب ان نقول لا
يأتي التلاميذ أحيانا تصرفات مزعجة قليلا أو نسبيا اثناء حصة الدرس ، فيقع التغاضى عنها. يعتبرهذا خطأ، إذ ربما يمكننا تأجيل ردة الفعل إلى حين إنتهاء الحصة، أو نختلف في طريقة ردة الفعل، لكن لابد في بداية السنة الدراسية أن يكون المدرس صارما بشأن القواعد التي تم وضعها. لأن السكوت في اليوم الأول أو في الأيام الموالية أثناء العودة المدرسية عن تلك التصرفات البسيطة ، قد يفهم منه أنه تسامح و أحيانا ضعف، فيتمادى التلاميذ و تصبح تصرفاتهم أكثر إزعاجا.
إن تحديد القواعد و عدم القدرة على تنفيذها أو السكوت عند مخالفتها و عدم إحترامها يعد تشجيعا للسلوكات والتصرفات غير اللائقة بطريقة غير مباشرة إلى درجة يصعب فيما بعد فرض إحترامها.
ولتجنب الوقوع في ذلك أقترح إحترام الملاحظات التالية:
– يجب أن يكون المدرس صريحا مع نفسه ، يعرف ما يمكن أن يتقبله من تصرفات التلاميذ و ما لا يتقبله .
– بلورة القواعد التي يجب إحترامها من قبل التلاميذ أثناء الدرس بكل وضوح و من الأحسن بمشاركة التلاميذ لكي لا يقع تأويلها تأويلا غير ملائم .
– تطبيق هذه القواعد و عدم التردد في فرض إحترامها إذا وقع خرقها من قبل التلاميذ.
5- إدخال التلاميذ للقسم وهم في حالة صخب واضطراب
السماح لدخول التلاميذ لقسم وهم في حالة هيجان وفوضى واضطراب ، يعتبر رسالة لهم تفيد أن المدرس متسامح ولا يبالي وقادر على تحمل الحالة التي هم عليها. كما أن وقتا هاما سيقع إهداره عند القيام بتهدئتهم في القسم، كما أن ذلك يمكن أن يتكرر ويصبح عادة يومية يقومون بها عند موعد كل الحصة معهم.
إن طريقة دخول التلاميذ للقسم في بداية السنة الدراسية ، يجب أن يعكس رؤية المدرس ورغبته فيما يريد أن يؤسسه ويفرضه من روتين وسلوك أثناء حصة الدرس.
إن الفضاء الذي أمام القسم هو فضاء للراحة و الترفيه بعد حصة كان فيه التلميذ منتبها ومركزا، والوقوف بإنتظام أمام القسم هو إعلان للإستعداد للإنتقال من فضاء اللعب والإستراحة والترفيه إلى فضاء الدرس المنظم بضوابط من اجل تمكينه من إستيعاب الدرس بكل إنتباه و إنضباط وهدوء، لذلك بمجرد عبور باب القسم الذي يعتبر الفاصل بين الفضائين عليه أن يلتزم بالقواعد المتفق عليها وعلى المدرس أن يسهر على إحترام ذلك.
6-عدم التمكن من أسماء التلاميذ
قد يكون من الصعب تذكر أسماء جميع التلاميذ في مفتتح السنة التربوية ، خاصة إذا كان المدرس بمعهد ثانوي و له العديد من الأقسام الدراسية و التي بها عدد هام من التلاميذ. لكن رغم ذلك لابد للمدرس أن يضع في إعتباره أنه سيقضي ساعات عديدة مع تلاميذه على مدار السنة التربوية ، فيصبح عدم معرفة أسماء التلاميذ أو معرفة البعض من أسمائهم عائقا أمام تجاوب التلميذ مع المدرس.
إن معرفة الأسماء الأولى للتلاميذ ، هي بمثابة الخطوة الأولى لحسن إدارة حصة الدرس و بناء علاقة ودية ، تربوية معهم .صحيح أنه من الصعب حفظ جميع الأسماء منذ بداية السنة الدراسية ، لكن يمكن التغلب على ذلك بعد أسابيع، كما يمكن عند توجيه سؤال للتلميذ أن تطلب منه التذكير بإسمه مما يشعرهم بأن المدرس يحترمهم و يقدرهم ، فيتفاعلون معه إيجابيا أثناء الدرس.
7- إقامة علاقات ودية للغاية مع التلاميذ
إن خلق علاقة إيجابية مع التلاميذ جزء أساسي لخلق مناخ تربوي مساعد على تحقيق غايات العملية التربوية. فالمدرس المحترم والمقدر من قبل التلاميذ يسهل عليه إدارة قسمه ويؤثر في التلاميذ ويقدر على توجيههم و يكون قدوة للعديد منهم. كما أن المدرس الذي سمعته سيء لا يلقى التقدير والإحترام ويكون محورا للإشاعات المغرضة مما يخلق لديه صعوبة في إدارة قسمه وخلق مناخ تربوي إيجابي. لكن هذه العلاقات الودية لا يجب أن تخرج عن النطاق التربوي وتتحول إلى علاقات خاصة، بل يجب أن تبقى في حدود القسم وفضاء المدرسة وفي حدود الرسالة التربوية للمدرس و إلا كانت نتائجها عكسية و تجعل صورة المدرس مهتزة ويصبح مثلا سيئا للمدرسين.
ختاما لقد قدمت من خلال هذه الورقة سبعة ملاحظات يمكن إعتبارها أخطاء شائعة في الوسط التربوي يقوم بها المدرس في أغلب الأحيان دون وعي، تكون نتائجها عائقا لحسن إنطلاق السنة الدراسية.
كما أن كل بداية سنة دراسية جديدة هي بداية جديدة ومغامرة وتجربة فريدة، حيث لا توجد سنتان دراسيتان متشابهتان وهنا تكمن أهمية مهنة المدرس ومتعتها.