مخاض “ذاكرة” .. حكاية مدادها الدمع والدم

يسرى الشيخاوي-

موشحة بالنشوة تلك اللحظات التي تسبق ولادة عمل فني، موسيقي كان أو سينمائي أو مسرحي، ومطرزة بالتساؤلات تفاصيل ذلك المخاض الذي تتشكل فيه الملامح الأولى له، والنشوة والتساؤلات عايشها كل من حضر، مخاض "ذاكرة" للمسرحيين سليم صنهاجي وصباح بوزويتة.

هو ليس عرضا ما قبل أول وليس عرضا أول وليس بروفة، هي ملامح تشكل المولود الفني، صورة أولى قد تبدو عارية من الاكسسوارات ومن المكملات ولكنها واضحة التقاسيم، وليد يبث فيه مسرحيون عشقوا المسرح من انفاسهم الحرة الطليقة.

خيط مارق عن القياس ينسج منه المسرحيون صباح بوزويتة وعلاء الدين ايوب ورضا بوقديدة وسليم الصنهاجي تفاصيل عرض يروي سردية ذاكرة جريحة، سردية مسرحية لذاكرة مازلت ترزح تحت وجع الظلم والقهر.

قبل ميلاد محاكمة ليست كغيرها من المحاكمات، يتهامس الثنائي سليم صنهاجي وصباح بوزويتة على الخشبة يناقشون بعض تفاصيل العرض بكل شغف، قبل أن تحمل الإضاءة أولى خلجات الوليد الفني.

ولان الفن عموما، والمسرح خصوصا، ليس بمعزل عن القضايا الوطنية وهواجس الفرد والمواطن، ينهل من الواقع ويطرح روايات اخرى له بتلوينات نغايرة، يسائله ويحاكمه عبر خصائص فنية.

 من هذا المنطلق كانت فكرة مسرحية " ذاكرة" التي تنبش في ذاكرة اجيال، ذاكرة عنوانها الوجع والقهر والخيانات، ذاكرة تفتّقت على قارعة العدالة الانتقالية وتناثرت تفاصيلها بين المسائلة والمصالحة ومازلت إلى اليوم تئن.

ضحية( صباح بوزويتة) وجلّاد (رضا بوقديدة) وبينهما "العدالة" في هيئة محام زوج ( علاء الدين أيوب)، ثلاثة شخصيات تنثر الملح على جراح ما تزال مفتوحة، الضحية تنشد الراحة والخلاص والجلاد يخلق العذر وراء العذر والمحامي يحاول حجب الشمس بطرف إصبعه.

عن نص اقتبسته صباح بوزويتة عن "الموت والعذراء"  للكاتب التشيلي "أرييل دروفمان"، وتونست تفاصيله لتتبدى العدالة الانتقالية واعتصامات القصبة وحملات مانيش مسامح بين ثناياه، في تعبيرات عن هواجس الفنانة الإنسانة.

لقاء الجلاد والضحية بعد اهتزاز عرش الدكتاتورية، تتبدل المواقع وتتغير ويسري الوجع في ذات الضحية أكثر وأكثر وتنفتح المشاهد على كل السيناريوهات ووتنتفي حدود الزمن ويتشابك الماضي والحاضر والمستقبل ويتغذى القهر من الرتباك والرعشة.

وعلى ايقاع وشوشات سليم الصنهاجي الذي يحاول ان يمسك بخيوط الضوء ليوالصل تطريز عمل مسرحي يسائل فيه الماضي والتاريخ وتحكي فيه الذاكرة الوطنية حكايات مدادها الدم والدمع.

ثنائيات كثيرة تتجلى على الخشبة، الصمت والكلام،الحق والباطل، العدالة والظلم، الضحية والجلاد، الماضي والحاضر، القوة والضعف، التغيير والتكلّس، الحاكم والمحكوم، ثنائيات تتمايز لكنها غير منفصلة عن بعضها البعض.

حكايات تمتد من الماضي إلى المستقبل يرويها نص بوزويتة، نص ستظل تبث فيه هواجسه إلى أن يكتمل خلق المسرحية، ويمسرحها أداء الثلاثي بوزويتة وعلاء الدين أيوب ورضا بوقديدة  في لقاء تعبق منه رائحة الماضي المسرحي الجميل، لقاء محمل بالشغف والحنين.

أداء الممثلين يشّرع أبواب الذاكرة لتستحضر جلسات الاستماع العلنية لضحايا التعذيب على إيقاع الرباعية الوترية للنمساوي شوبرت، وفي صوت صباح بوزويتة تجمعت كل آهات الأمهات والزوجات وكل صرخات الظلم التي لم تتحرر من الحناجر. 

أما السينوغرافيا والإخراج والأزياء والمكمّلات الركحية، ما تزال في هذه المرحلة من العرض المسرحي غير واضحة المعالم فعليا وإن كانت قد تشكلت في مخيّلة سليم الصنهاجي الذي سيواصل تطريز "ذاكرة" إلى موعد العرض ما قبل الاول يومي الجمعة والسبت من شهر اكتوبر المقبل أنّى يكون الجمهور في مواجهة بعض من ذاكرة وطن.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.