بقلم الباحث المتخصّص فى التفكير الاستراتيجي محجوب لطفي بلهادي–
بعد انقضاء عشرية كاملة بنكهة ميكيافلية عالية، دفعت بالبلاد إلى حالة متقدمة من التطاحن المناطقى والقطاعى وشبه شلل مؤسساتى للدولة، أجمع مختلف الفرقاء دون استثناء – بما فيهم من تفنّن فى مزيد اشعال حريق الازمة – بان منظومة حكم 2011 فشلت فشلا ذريعا فى إدارة البلاد وأنه بات من المستحيل الاستمرار فى نفس النهج.
بناء على هذا الاعتراف المدوى للطبقة السياسية انطلق سيل يكاد لا ينتهى من المبادرات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان تمحور أساسا حول ثلاث اليات:
الأولى يدعو أنصارها إلى عقد حوار وطنى بين عدد من مكونات المجتمع السياسى والمدني عل غرار تجربة "الحوار الوطنى" لسنة 2013، وأخرى تنادي باسقاط المنظومة بالاحتجاج السلمى والدعوة الى انتخابات مبكرة، أما الاخيرة فهى تغمز فى اتجاه الإطاحة بالمنظومة عبر الدعوة لانقلاب عسكرى.
وبالتدقيق فى الآليات المتداولة ومدى تناغمها مع مفردات الواقع التونسى الغارقة فى الخصوصية يمكننا أن نخلص إلى الملاحظات التالية:
ان الدعوة إلى "حوار وطنى" فى ظل قبول مشروط لرئيس الجمهورية لمبادرة "الاتحاد العام التونسى للشغل" وفى ظل وضع اقليمى وداخلى مختلف تماما عن سياقات 2013 حيث بلغ اليوم مستوى الاحتراب السياسى والنزاع المناطقى والقطاعى ذروته تجعل من فرص تحقيق هذه الفرضية تقارب الصفر.
أما الدعوة إلى إسقاط المنظومة عبر الشارع بالأشكال الاحتجاجية السلمية دون تقديم بديل متأصّل فى الدستور يعكس عدم تحرر أبرز شيوخ "اليسار السلفى" فى بلادنا من القوالب البروليتارية المتكلسة التى من شأنها أغراق البلاد فى أتون "شريعة الشارع الغريزية".
فى حين ان المراهنة على انقلاب عسكرى يعكس مدى الجهل المطبق لأنصار هذا الرأى للكيمياء الحقيقية للجيش التونسى الذى لا علاقة لبنيته العقائدية بالجيوش المشرقية المعروفة بهوسها المفرط "للبيان رقم واحد".
فى ذات السياق العام الموبوء سياسيا والمنفلت اجتماعيا – خاصة ونحن على أبواب شهر جانفى الاحتجاجى بامتياز- ، واحساسا منا بالمسؤولية نتقدم للنخب السياسية والمدنية بتصوّر مواطنى يستند الى احدى الاليات الدستورية المٌغيّبة تماما عن جميع المبادرات علّها تحقق الاختراق المنشود واستعادة الأمل من جديد.
1- على مستوى التصوّر العام:
أمسى فى حكم المٌسلّم به لدى الجميع – نخب وعامة على حد السواء – بأننا حيال أزمة مجتمعية مٌركّبة فى علاقة مباشرة بالأمن القومى بأبعاده الشاملة (الامنية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية الخ) تستوجب البحث عن مقاربات جديدة بديلة عن دعوات الحوار المقترحة أو تلك التى تحيلنا على الفصل 80 من الدستور لاستحالة تفعيله بحكم غياب المحكمة الدستورية.
فى نفس النسق وعملا بمقتضيات الباب الرابع من الدستور وبالتحديد الفصل 77 المتعلق باختصاصات رئيس الجمهورية خاصة تلك المتصلة بصلاحياته فى مجال الامن القومى، والامر الحكومى عدد 70 المؤرخ فى 19 جانفى 2017 المتعلق بمجلس الأمن القومى والقرار الرئاسى المؤرخ فى 30 اكتوبر 2017 المنظم لسير عمل لجان "مجلس الأمن القومى" فانه من الممكن والمتاح دستوريا الاستفادة القصوى من هذه المؤسسة باعتمادها كالية وعنوان بارز للخروج من المأزق المجتمعى الذى وقعنا فيه جميعا.
وبالتدقيق فى مهام "مجلس الأمن القومى" المضمنة بالفصل 1 من القسم الاول من الأمر الحكومى المذكور فانه "يسهر على حماية المصالح الحيوية للدولة فى اطار تصور استراتيجى يهدف الى صون سيادة الدولة واستقلالها وضمان وحدة ترابها وسلامة شعبها وحماية ثرواتها الطبيعية…"، والفصل 2 من القسم الثانى لنفس الأمر الحكومى المعنية بتركيبة مجلس الأمن القومى الواردة كالاتى : "رئيس الجمهورية بصفته رئيسا للمجلس – رئيس الحكومة – رئيس مجلس نواب الشعب – الوزراء المكلفون بالعدل والدفاع والأمن والشؤون الخارجية والمالية – رئيس المركز الوطنى للاستخبارات – أعضاء كما يمكن للوزراء المشار اليهم أعلاه طلب حضور القادة أو المديرين العامين أو رؤساء الهياكل المختصة ذات العلاقة بمهام المجلس للمشاركة فى أعماله…ولرئيس الجمهورية أن يدعو من يرى فائدة فى حضوره أعمال المجلس".
وبالنظر للنطاق الواسع للجان القارة التابعة "لمجلس الأمن القومى" التى وردت بالفصل الاول من القرار الرئاسى المؤرخ فى 30 أكتوبر 2017 المٌؤلفة من 15 لجنة قارة ( لجنة الاستخبارات – لجنة شؤون الدفاع- لجنة شؤون الأمن والدفاع المدنى– لجنة الشؤون الخارجية – لجنة تأمين الحياة السياسية والحياة العامة – لجنة أمن المنشات الحساسة – لجنة الامن الاقتصادى والمالى – لجنة البيئة – لجنة التربية والثقافة والتعليم العالى والبحث العلمى – لجنة الامن والسلم المجتمعى – لجنة الامن الغذائى والمياه – لجنة الصحة – لجنة امن النقل – لجنة أمن الطاقة والثروات الطبيعية – لجنة الاتصالات والمعلومات حيث يتولى رئاسة كل لجنة وزير الاختصاص الراجعة له بالنظر) يمكننا التوقف عند عدد من النقاط الجوهرية :
انّ مؤسسة " مجلس الأمن القومى" يترأسها ويدعو الى عقدها رئيس الجمهورية،
ان توقيع رئيس الجمهورية على القرارات أوالتوصيات المنبثقة عن أعمال هذه المؤسسة يكون بصفته المزدوجة كرئيس للجمهورية ورئيس لمجلس الأمن القومى،
ان رئيس الحكومة ورئيس البرلمان يشكلان أعضاءها المحورية دونهما مبدئيا تبطل أعمال اللجنة،
انّ "اللّجان القارة" التابعة "لمجلس الأمن القومى" تتكون من وزراء مباشرين كل فى حدود اختصاصه،
ان "مجلس الأمن القومى" بتركيبته الموسّعة يٌشكّل هيكل تواصل وتنسيق دائم فى المسائل المتعلقة بالأمن القومى بين ثلاثى الحكم : قرطاج – القصبة – باردو،
ان "مجلس الأمن القومى" بتركيبته الأصلية والفرعية (اللجان) تٌعدّ مؤسّسة/مرجع بين مختلف السلط فى الاوضاع التى من شأنها ارباك عمل المؤسسات أو تعريض السلم الاهلى للخطر،
ان "مجلس الأمن القومى" بالاختصاصات الواسعة التى تعود له بالنظر يمكن أن يلعب دور المؤسسة-الحكم institution d’arbitrage بين مختلف السلط (السلطة التنفيذية والتشريعية تحديدا ).
2- على مستوى الاجراءات التى ينبغى التداول فى شأنها:
على ضوء الوضع الامنى المخيف الذى طال مواقع الإنتاج الحيوية للبلاد عبر انتهاج استراتيجية "غلق الفانات الانتحارية" ، واستئناسا بتجربة ما بعد 14 جانفى 2011 فى إدارة الأزمات حيث أثبتت المؤسسة العسكرية تعففها الكامل عن مغريات الحكم من خلال تأمينها لعملية الانتقال السلمى للسلطة التى تٌوّجت بانتخابات أكتوبر 2011 الأولى من نوعها فى تاريخ البلاد، وعملا بمقتضيات الدستور والقوانين المنظمة لعمل "مجلس الأمن القومى"، يٌخوّل لرئيس الجمهورية أن يأذن بدعوة "مجلس الأمن القومى" للانعقاد بشكل عاجل فى دورة استثنائية ودائمة على معنى الفصل 4 من الأمر الحكومى لسنة 2017 الذى ينص صراحة " وعند وجود خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو امن البلاد أو استقلالها أو تعرضها لأزمات، ينعقد المجلس حالا ويبقى فى حالة انعقاد الى زوال الموجب" وذلك بغرض اتخاذ حزمة من القرارات والمراسيم التى من شأنها نزع فتيل الاحتراب المناطقى والقطاعى التى تلوح فى الأفق، منها على وجه الخصوص :
I- فى المنظور العاجل
وضع آليات لإنفاذ القوانين ذات العلاقة بحماية مواقع الإنتاج المنصوص عليها بالأمر الرئاسى عدد 90 المؤرخ فى 3 جويلية 2017 (الفصل الرابع منه على جه الخصوص) وبالتسخير الواردة بقانون الطوارىء لسنة 1978 ومجلة الشغل (الفصل 389) والمجلة الجنائية (الفصل 107) وذلك بتوصية من لجنة "شؤون الدفاع والأمن" ولجنة "أمن المنشات الحساسة".
إيجاد صيغ تفاهم مع المنظمة الشغيلة لإرساء هدنة إجتماعية لمدة محددة عبر لجنة "الأمن الاجتماعى" التابعة لمجلس الأمن القومى.
II- فى المنظور القريب
الاسراع بتحديد سقف زمنى لا يتجاوز الستة أشهر بخصوص : احداث محكمة دستورية، تنقيح قانون الأحزاب والجمعيات، تعديل المجلة الانتخابية وتنقيح النظام الداخلى لمجلس نواب الشعب بتوصية من لجنة "تامين الحياة السياسية والحياة العامة" ،
الاسراع بعرض مشروع القانون المتعلق بمكافحة "جرائم انظمة المعلومات والاتصال" أمام أنظار مجلس نواب الشعب بتوصية من لجنة "الاتصالات والمعلومات"،
الاذن بتنظيم استفتاء عام وفق مقتضيات الدستور حول امكانية تغيير النظام السياسى من عدمه.
الاسراع بوضع اليات وقائية وقوانين جديدة تؤدى الى تشديد العقوبات فى قضايا الفساد المالى التى استفحلت نظرا لعقلية الافلات من العقاب المستشرية اليوم وذلك بالتنسيق مع لجنة "الأمن الاقتصادى والمالى".
وبما أن الطبيعة لا تأبى الفراغ فانه فى صورة تواصل حالة الجمود السياسى الراهنة فان الفعاليات الشبابية المهمشة ستٌكثّف من عمليات فرض طوقها الاحتجاجى الخانق فى جميع الجهات تحت مسمى "تنسيقيات محلية" لا مكان فيها للدولة الموحّدة على معنى الفصل 14 من دستور 27 جانفى 2014.
حذار ثم حذار من اهدار مزيد من الوقت !