بقلم: نادر الرزقي (متفقد مركزي للادارة الاقتصادية بوزارة التجارة) –
في أحدث تقاريرها الصادرة بتاريخ 21 نوفمبر 2019، عبرت المنظمة العالمية للتجارة عن تحفظها إزاء الإجراءات التضييقية المتخذة من طرف الدول العشرين الأكثر نموا والماسّة بحرية التجارة العالمية. حيث قامت هذه الدول باتخاذ أكثر من 28 اجراء حمائيا من هذه النوعية خلال الفترة المتراوحة بين منتصف ماي ومنتصف أكتوبر 2019.
علاوة على التأثيرات المالية لهذه الإجراءات على صعيد حركيّة التجارة العالمية والمقدّرة بحوالي 460 مليار دولار مقابل 336 مليار دولار فقط خلال السنة المنقضية، فقد انعكست هذه الإجراءات المتخذة على توقعات المنظمة بشأن نمو تجارة السلع، حيث انخفضت هذه التوقعات من 3.6 % الى 1.2 % فقط بنهاية سنة 2019 وذلك رغم أن نفس تلك البلد
ان قد اتخذت إجراءات هامة لتسهيل التجارة فاق عددها 36 اجراء منذ بداية شهر جانفي 2019 خاصة من خلال حذف أو تقليص المعاليم الديوانية عند التوريد والتصدير.
ويثير تقرير المنظمة المذكور عديد التساؤلات:
أولها: أن الدول العشرين الأكثر نموا تحاول منذ فترة في إطار المنظمة الضغط على الدول النامية لمنعها من اتخاذ أي اجراء حمائي لحماية صناعتها الوطنية بتعلّة ضمان حرية التجارة وفتح حدودها أمام السلع الأجنبية.
ثانيها: أن التوقعات بتباطؤ نسق نمو تجارة السلع وانكماش الطلب نتيجة هذه الإجراءات يرفع تحديا بالغ الخطورة أمام الصادرات التونسية في موسم تشير فيه كل التوقعات الى صابة قياسية في قطاعي زيت الزيتون والتمور باعتبارها أساس التركيبة الهيكلية لهذه الصادرات.
ثالثها: أن تونس لم تتخذ إجراءات حمائية مماثلة لما اتخذته القوى الاقتصادية الكبرى رغم أن ميزانها التجاري يشكو عجزا حادا مردّه التنامي المهول للواردات خاصة في مجال تدابير الدفاع التجاري التي يخولها الفصل 5 من اتفاقية القات.
ويلاحظ أن السنوات الأخيرة اقترنت بارتفاع الدعوات لاتخاذ إجراءات حمائية مماثلة لكن دون أن يقدّم المختصون طرق اتخاذ هذه الإجراءات في إطار ضمان احترام تونس لالتزاماتها وتعهداتها الدولية. ويبدو أن الطرح العام لهذه الدعوة يفتقر الى معرفة اليات الدفاع التجاري باعتبارها احدى الوسائل التي تكفل حماية الصناعة الوطنية من التوريد المكثف.
تقنيا، تتمثل اليات الدفاع التجاري في مجموع الإجراءات التي يمكن للدولة التونسية اتخاذها بشأن واردات تتميز بوجود ممارسة غير مشروعة ترافقها عند دخولها التراب التونسي سواء من خلال كثافة حجمها أو تدني سعرها نتيجة وجود اغراق أو دعم غير مشروع انتفعت به في بلد المنشأ. وتتمثل هذه الإجراءات قي تحديدات كمّية أو معاليم ديوانية مرفّعة يتم فرضها بعد انجاز تحقيقات من السلط المختصة يثبت من خلالها الطابع اللامشروع لهذه الواردات التي تمرّ عبر المسالك المنظمة لا مسالك التجارة الموازية.
ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد بالمقارنة مع تجارب البلدان الأخرى وخاصة منها الشبيهة لتونس:
– مقارنة بما هو مسجل على الصعيد العالمي: منذ تم تأسيس منظمة التجارة العالمية والى حدود سنة 2017 تم فتح قرابة 331 تحقيقا في مادة الإجراءات الوقائية بما يعني أن مساهمة تونس في فتح تحقيقات مماثلة لم تتجاوز حدود 2 بالمائة فقط باعتبارها لم تفتح سوى 5 تحقيقات.
من جهة أخرى بلغت التدابير المتخذة عقب فتح هذه التحقيقات 166 تدبيرا لم تتجاوز مساهمة تونس منها 0 بالمائة.
على مستوى مكافحة الإغراق، ومنذ سنة 1994 تم فتح 486 تحقيقا متعلقة بالإغراق لم تساهم تونس في أي منها وقد ترتب عن هذه التحقيقات اتخاذ مجموعة من التدابير بلغ عددها 257 إجراء لم تتخذ تونس أي منها.
– على المستوى الاقليمي: مقارنة بتجارب بعض البلدان الشبيهة يمكن ملاحظة أن:
مصر مثلا قامت بفرض 33 رسما ضد الإغراق و8 إجراء وقائي منذ سنة 1995 إلى حد الآن من جملة 70 تحقيقا تم فتحها.
المغرب قامت بفتح 10 تحقيقات في مادة الإجراءات الوقائية والاغراق منذ سنة 1995، 5 منها ترتب عنها اتخاذ إجراءات وقائية ورسوم ضد الاغراق.
شروع بلدان عربية أخرى في اتخاذ إجراءات وقائية ورسوم ضد الإغراق بشأن واردات أجنبية على غرار فرض دول مجلس التعاون الخليجي رسوما ضد الاغراق بشأن واردات الحديد من أوكرانيا وقيام لبنان خلال شهر أكتوبر 2019 بفرض رسوم اغراق ضد واردات الألمنيوم المتأتية من جمهورية الصين الشعبية.
وعليه فانه يتبين قلة عدد التحقيقات المفتوحة منذ طرف الدولة التونسية والتي لم يتجاوز عددها الخمس وانحصارها في مجال الإجراءات الوقائية دون المجالات الأخرى على غرار الإغراق والدعم علاوة على عدم صدور أي إجراءات حمائية لفائدة المنتوج الوطني عند ختم هذه التحقيقات لأسباب متعددة.
ان أهمية اليات الدفاع التجاري تتدعّم يوميا على الصعيد العالمي وأصبحت تتجاوز معطى حماية النسيج الوطني لتهم:
أ- التصدي لعجز الميزان التجاري: رغم أن فقه المنظمة العالمية للتجارة يمنع استعمال اليات الدفاع التجاري للتقييد من حرية المبادلات ، فان عدة بلدان درجت على توظيف هذه الاليات لمجابهة تنامي الواردات وتحسين أداء الميزان التجاري .فعلى سبيل المثال تم استعمال الية مكافحة الإغراق من طرف السلطات المغربية دون وجود مبررات قانونية وواقعية تبرر استعمالها وذلك في مثالين : المثال الأول يتعلق بمعاليم الإغراق التي تم توظيفها ضد الواردات التركية من الحديد المسلح أما المثال الثاني فيهم معاليم الإغراق التي تم تسليطها ضد الواردات التونسية من الكراس المدرسي ويبدو أن المبررات الوحيدة التي يمكن تقديمها لتفسير هذه الإجراءات تتمثل في محاولة السلطات المغربية التقليص من عجز الميزان التجاري المتنامي.
ب- تطوير الاستثمار: باعتبار أن الاتفاق الدولي المتعلق بالإجراءات الوقائية خاصة والتشريع الوطني المماثل يبيح إمكانية اتخاذ إجراءات حمائية ضد ممارسات غير مشروعة عند التوريد تتهدد صناعة وطنية ناشئة.
بهذا المقتضى يُشكل تعريف الباعثين الجدد والمستثمرين بهذه الامكانية وطرق الاستفادة منها تشجيعا لهم على بعث استثمارات جديدة وتبديدا لتخوفاتهم من إمكانية فشلهم أمام تنافسية المنتجات الموردة .
علاوة على ذلك، وعلى ضوء خصوصية الواقع التونسي يمكن لآليات الدفاع التجاري المساهمة في انقاذ بعض المؤسسات العمومية.
ت- انقاذ بعض المؤسسات العمومية : تعاني بعض المؤسسات العمومية من صعوبات جمّة تتهددها بالإفلاس ويمكن في هذا الصدد طرح إمكانية استفادة مؤسستين عموميتين على الأقل بإجراءات حمائية ويتعلق الأمر بكل من شركة الفولاذ والشركة التونسية لصنع الإطارات (STIP) وذلك اقتداء بالنموذج المصري .حيث قامت مصر بفتح 5 تحقيقات كاملة تتعلق بوارداتها من حديد التسليح ضد كل من أوكرانيا وتركيا وذلك بهدف حماية صناعتها الوطنية ممثلة في احدى المؤسسات المصادرة وقد ترتب عن هذه التحقيقات تحول مصر من بلد مورد لهذه النوعية من الحديد الى يلد مصدر وذلك بعد اطلاق الوحدة التصنيعية السادسة بطاقة انتاج تبلغ 600 ألف طن سنويا ، خاصة أن اتخاذ الإجراءات الحمائية المذكورة يجب أن يترافق ضرورة مع وجود مخطط هيكلي لإعادة تأهيل هذه المؤسسات.