ما علق بالذاكرة في مستشفى الرابطة: حاوية القمامة الضخمة وطبيبة بأدوات”بدائية”

هبة حميدي-

كانت الاولى أما مكلومة وكانت الثانية صاحبة البزة البيضاء مجتهدة محبة لرسالتها، كان وجه الاولى مصفرا وعيناها غائرتان أما الاخرى فعيناها تحدقان في الرضيع بكل تركيز.

كانتا الاثنتان معا، أمام دولة عاجزة وفشلت حتى في تأمين حق الحياة، هذا الحق الطبيعي الأساسي..لم نطالب إلا بالحق في الحياة.. لم نشترط ان تكون حياة رفاه أو بذخ، لكن كيف ننال هذا الحقّ وسط غياب أبسط مقومات الفحص بقسم الاطفال بمستشفى الرابطة؟

ذات اِثنين كئيب، اتجهت الى طبيب الاطفال الخاص فاخبرني ان وضعية طفلي غير مُطمئنة، وعليه الإقامة بالمستشفى، توجهت الى “الاستعجالي” بمستشفى الاطفال بشير حمزة بباب سعدون على الفور، الذي كان يوحي بكل شيء إلا ان يكون قسما للحالات المستعجلة.

بعد الوقوف في صف بدا لي أطول من سنوات نوم اهل الكهف، تم فحص طفلي ذي الثلاثة 3 اشهر، وأيقنت الطبيبة ان حالته تتطلب الاقامة في المستشفى، تنفست الصعداء. ربما لا يزال هناك متسع من الوقت لإنقاذ قرة عيني .. تنفست الصعداء لكن لم يدم ذلك طويلا. اخبرتني الممرضة ان المستشفى مكتظ ولا يمكنني الاقامة مع رضيعي وبجب علي التوجه من فوري الى مستشفى الرابطة.

خرجت سريعا متجهة إلى مستشفى الرابطة.. والوقت يداهمني وصفير صغيري يلازمنى.. رئتاه الصغيرتان لا تحتملان أكثر.

لكن من تبعات ذلك الاثنين الحزين، تم حجز سيارتنا ومن الصعب إيجاد سيارة اجرة. انه وقت الذروة ..فجأة رأيت سيارة اجرة أنزلت حريفا، اتجهت نحوها مسرعة وأنا أحمل طفلي، كانت ستستقلها سيدة، توسلت اليها أن تراعي وضع طفلي وتسمح لي بأن استقلها بدلا عنها،لكنها رفضت واوصدت الباب.

لا يمكنني الانتظار كالغريق الذي يحاول التمسك بالحياة.. أشرت على السيارات علّ أحدهم يقلني من استعجالي باب سعدون الى “استعجالي” الرابطة،قرابة الـ 5 اشخاص رفضوا الى أن حالفني الحظ ووجدت طبيبا أقلني الى هناك.

دخلت الى غرفة الفحص بقسم الأطفال، أين فحصته صاحبة البزة البيضاء التي تحدثت عنها،  فحصت طفلي وطلبت مني التوجه الى قسم التصوير بالأشعة.

توجهت الى هناك مسرعة، كان الفضاء المقابل للقسم مكتظا بالرضع والأطفال والشيب والشباب.. كان قسما مهينا للذات البشرية حيث لا تجد حتى مقاعد للجلوس.

الشيب يفترشون الارض وغيرهم يستندون الى الحيطان، اللافت للانتباه في ذلك القسم هو الاكتظاظ وحاوية الفضلات السوداء الكبيرة وسط أكوام من الفضلات، إن دخلت الى ذلك القسم سترى الوجه الكئيب لتونس، هناك يمكن لك ان ترى الفقر وتشم رائحة الخصاصة.

أتممت صورة الاشعة واتجهت الى حيث صاحبة البزة البيضاء تلك الطبيبة الشابة، اخبرتني ان صدر طفلي بخير و الأهم انه لا موجب للإقامة بالمستشفى. لم يقنعني كلامها. كيف لا وطفلي من 5 ايام لا يمكن له التنفس جيدا .. كيف وطبيه الخاص وطبيبة الاطفال باسعجالي مستشفى البشير حمزة أجمعا على ان حالته غير مطمئنة ويمكن ان يتعرض الى اختناق.. هدّأت من روعي وطلبت مني أن اثق بها وألاّ اغادر الا وأنا مقتنعة ومطمئنة على وضع ابني، جلست هناك في غرفة الفحص وكنت أرضع طفلي وأراقبها.

تفاجأت … هذه الطبيبة الشابة تجتهد وتحاول فحص الرضع بطرق تقليديه..اين المعدات؟ .. اين وزارة الصحة مما يعاني منه الاطباء والمستشفيات؟ اين دولتنا مما يتعرض له اطفالنا؟

أعود بكم الى صاحبة البزة البيضاء، انها الطبيبة المجتهدة التي لم توفر لها دولتنا الموقّرة أبسط الأشياء لفحص طفل صغير فمثلا لا يوجد منظار كاشف حيث اذا ارادت الطبيبة فتح عيني رضيع والتحديق فيهما تستعمل هاتفها ضوء الذكي! وأحيانا اجدها تحمل الطفل وتذهب به قرب الشباك علّ ضوء النهار يظهر لها ما تريد.

تداخلت عدة أسئلة في ذهني وتذكرت ما حدثتني عنه ابنة اختى التي تقطن في بلاد المهجر بألمانيا ،اخبرتني انه يتم تعليمهم في المدارس انهم اغلى ما يوجد في تلك البلاد، اخبرتني انهم يقومون بتمارين في المدارس من اجل اعطاء قيمة للذات البشرية عامة وللأطفال مستقبل البلاد خاصة.

قالت لي كلمات ظلت في مخيلتي. قالت لقد علمونا يا خالة أنّه يمكن تعويض كل شيء. يمكن ان نشتري مثله او ما أحسن منه، لكن إن نحن أصبنا بمكروه فلن نعود ولا يمكن تعويضنا.

ما أروع بلاد المهجر هذه، هكذا تصنع الدول أمجادها عندما تحترم شعوبها وتبعث فيها الامل وتراهن على أجيالها الناشئة من اجل بناء الدولة.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.