ما جمعه الشّأن العامّ لا تفرّقه العاميّة!

أمل المكّي-

“البشر يحاولوا يصنعوا عالم ينجّموا يعيشوا فيه”، هكذا كتب مجد مستورة بصوت الفنّان معتليا ركح الشارع التونسي.

 الشّأن العامّ متلازمة لغوية غدت حاضرة في المعجم السياسي للتونسيين بعد 2011. لم يكن للعبارة قبل ذلك التاريخ الفيصل صوت ولا دويّ، فلم يكن جائزا وقتها القول بأمر يجمع الشعب التونسي غير ولائه ل”صانع التغيير”. فاح الياسمين على صدر الخضراء فانتعش الخاصّ وابتهج العامّ واجتمع التونسيون في الساحات والمقاهي يناقشون شؤونهم العامّة دون خوف أو وجل. تلك بداية الشأن العامّ التونسي…

“الشّأن العامّ هو اللّي يلمّنا”، كتاب ألّفه الباحث الفرنسي في العلوم السياسية فيليب دوجاردين، ونقله إلى الفرنسية الممثّل السينمائي والمسرحي التونسي مجد مستورة. وقد أصدرت الكتاب ذا الصفحات الاثنتين والثمانين دار الجنوب للنشر أواخر ديسمبر 2017  باللغتين العربية والفرنسية، ووضع نصّ التقديم الكاتب ورئيس جامعة منّوبة للآداب والفنون والإنسانيات شكري مبخوت.

يكتب مجد مستورة بصوت أبناء جيله… لهجة تونسية لا تخلو من تعابير دارجة جميلة، مصطلحات فصحى مبثوثة هنا وهناك إمّا قصدا أو لقصور في العامية، وبعض من دخيل على الدارجة من اللغة الفرنسية. الشارع يحكي حكايات انبثاق الشأن العامّ وتكوّنه وتطوّر مفاهيمه ونظرياته وآلياته وتكتيكاته. هو “كلام شارع” ينطلق من قاعدة مفادها أنّ “الناس ديما يلمّو”. الناس دائما يجمعون الأصوات والكلمات والأشياء. يولد الشأن العامّ في رحم الحاجة إلى الجمع والجماعة. كما ذات جانفي 2011 ولد من اجتماع الناس على كلمة سواء: شغل، حرية، كرامة وطنية…

إذا كان لمستورة فضل نقل النصّ إلى العامية التونسية، فالفضل في تجميع ما بعثرته القرون من أحوال الشأن العامّ وأصوله، يعود إلى فيليب دوجاردين. بأسلوب حكاية يرويها لحفيدته، وضع الباحث الفرنسي في العلوم السياسية “La Chose publique, ou l’invention de la politique”(الشّأن العامّ أو اختراع السياسة).

يسرد المؤلّف بأسلوب قصصي تبسيطي تاريخ البشرية السياسي منذ بداية العهد بالتجمّعات السكانية إلى غاية الممارسة المنظّمة للسياسة. لا وجود لتواريخ في النصّ، المهمّ هو ما فعله الناس كي يجتمعوا ثمّ ما فعلوه بعد الاجتماع.

“البشر ما يعيشوش كان في العالم.

البشر يحاولوا يصنعوا عالم ينجّموا يعيشوا فيه..”

بدأ الكتيّب فكرة في 2015، سرعان ما تمّ تنفيذها في إطار تشاركيّ بين جامعة منّوبة وجامعة ليون الفرنسية. وقد ترجم أوّلا إلى العربية الفصحى بغية تقديمه في شكل قراءات، قبل أن يتمّ العدول عن ذلك وتفضيل العامية التونسية.

“أمّا ساعات البشر يولّيو ماعادش قادرين يرميو كلامهم في وسط الدّورة بش شؤون هاذم وشؤون الأخرين تولّي شؤون عامّة. ساعات البشر يولّيو موش متفاهمين على حقّهم أنّهم يكونوا موش متفاهمين. ووقتها البشر يتضاربوا وتولّي العركة تشبّه للحرب…”

لغة مركّبة تحاكي قصص الأطفال في بساطتها من جهة، وتقترب من الفلسفة في تجريدها من جهة أخرى. هكذا كتب مستورة، عن دوجاردين، في محاولة لإعادة السياسة، من حيث هي شأن عامّ، إلى عموم الناس. نصّ فكري سياسي لا يدّعي القبض على حقيقة الفعل السياسي بقدر ما يحاول استفزازه ليغادر برجه العاجي ويعود إلى حيث نشأ. فضاء لاجتماع الإنسان بالإنسان، لم يجده على الأرض فاخترعه.

اختيار العاميّة بدل الفصحى، يأتي ربّما لينسجم مع هذه العودة إلى “ما يجمع”. هو تصوّر للكاتب بأنّ الفصحى قد تحول بين القارئ وفهم معاني النصّ الأصلي أو لعلّها تقطع بين القارئ والسياق التونسي لنشر النصّ. اختيار له من وجاهة النظر ما له، فلا ننكر إبداع الدوعاجي مثلا بالعامية في نصوصه. لكن على الاختيار ما عليه أيضا من تحفّظ. فقد غيّبت العامية المعتمدة في كامل النصّ كثيرا من جماليات الصورة في النص الفرنسي. عدا عن أنّ اللجوء إلى الدخيل قد فتح باب جهنّم من الأسئلة. فإلى أيّ حدّ مثلا نعتبر “ديجا” (déjà) و”كوبلووات” (les couples) الدّخيلتين لفظتين من العامية التونسية؟

هو نصّ يبعث على السّؤال إذن، بقدر ما يقدّم أجوبة. يمتع ويحثّ على المشاركة في الفعل. يشرح قواعد التعايش على مبدأ الفرد للكلّ ويبجّل فضيلة الاختلاف وفق مبدأ الكلّ للفرد. نصّ لا يهتمّ بواجب الوفاء للنسخة الفرنسية قدر حرصه على الالتزام بواجب الوفاء للسياق التونسي كلمة ومعنى.

كذلك هي المعاني في “الشأن العامّ هو اللّي يلمّنا”، ليست ملقاة على قارعة الطريق. بل هي تقف في الشارع هاتفة أن: “يعيّشكم أخرجوا من دياركم وتفضّلوا بحذانا”… دعوة للمشاركة في الشأن العامّ تفوح بعطر الياسمين!

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.