ما يحدث هذه الأيام في المستشفى الجامعي بصفاقس لا يمكن توصيفه الا بالفضيحة. هذه المؤسسة الصحية العريقة أصبحت اليوم رهينة تجاذبات ووسيلة لتصفية حسابات بين عناصر تدّعي ممارستها الحق النقابي وإدارة عاجزة عن تطبيق القانون.

أصل الحكاية يعود الى 6 أشهر خلت، عندما قام وزير الصحة، سعيد العايدي بتعيين شكري التونسي، أحد الأطباء، المنتمي إداريا الى المؤسسة العسكرية على رأس المستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة بصفاقس.هذا التعيين قوبل منذ الوهلة الأولى بالرفض من قبل النقابيين العاملين بالمؤسسة الصحية الأولى في الجهة الذين جنّ جٌنونهم وراعهم أن «يحكمهم» طبيب عسكري!!!!

ومنذ ذلك الحين والأزمة تراوح مكانها. فلا استطاع المدير الجديد أن يباشر مهامه ولا استجابت الادارة الى ضغوطات النقابيين والتزمت بتعيين خليفة له. فالمدير الجديد عجز منذ توليه مقاليد المستشفى الالتحاق بمكتبه بعد ان تم منعه من قبل بعض الأعوان في حركة تمرد صريحة على الادارة وعلى الدولة، إذ كيف نفسّر جراءة هؤلاء على ادارتهم والحؤول دون مباشرة مديرهم لعمله بصفة طبيعية ؟ هل كان ينبغي على وزير الصحة أن يستدعي هؤلاء الى مكتبه ويتباحث معهم سبل تعيين مدير جديد عليهم ؟ هل أخطأ الوزير عندما استنجد بطبيب متمرس لادارة هذا المستشفى «الظاهرة» ؟ هل أن انتماء الكفاءات الى المؤسسة العسكرية يمثل عائقا أمام تقلّدها لمناصب ادارية صلب المؤسسات المدنية ؟ أم هل أن مجرد الخوف من فتح ملفات عديدة وفرض الانضباط والصرامة من قبل هذا المدير «العسكري» هو الذي بث في نفوس المقصرّين والمخلين بواجباتهم الرّعب والرّيبة من أن تطالهم يد القانون أو أن تكشف ألاعيبهم أو أن يفرض الانضباط والجدية في إحدى المؤسسات العمومية التي تعاني كغيرها من التسيّب والفوضى وغياب القانون ؟ 

كلها أسئلة تُطرَح اليوم بالنظر الى تعقُّد هذه الأزمة وتشعُبها وأمام تعنت الطرف النقابي الذي يرفض، على ما يبدو، التفاوض مع الادارة والذي دعا مباشرة المدير المُكلَف بالتخلي عن منصبه لحلحلة الأزمة، وهذه غريبة أخرى من غرائب الزمان في تونس، بلد العجائب. كما أن تهديد وزارة الصحة بغلق هذه المؤسسة العريقة التي تعاني من ديون تفوق 30 مليار( !!!) والتي يتم إدارتها عن بعد من قبل المدير المرفوض يدفعنا الى التساؤل عن المستفيدين من تصاعد هذه الأزمة والمنتفعين بصفة مباشرة من وقوع المحظور لا قدّر الله أي في حالة مثلا غلق هذا المستشفى، الذي يبدو نظريا من الصعب تواصل نشاطه بهذه الطريقة العرجاء والغريبة ؟

وبعيدا عن منطق المؤامرة يبدو جليا أن تواصل تعنّت كل الأطراف وعدم رغبتهم في إذابة كرة الثّلج ودفعهم أحيانا الى رفض إيجاد حلّ وفاقي لهذه الأزمة الخطيرة ونحن على أبواب حرب منتظرة على الجارة الجنوبية ليبيا، لن يخدم الا مصالح أطراف يسوؤها «تعافي» هذه المؤسسة الصحية التي استقبلت مئات الجرحى والمرضى من أشقائنا الليبيين غداة الإطاحة بنظام القذافي في سنة 2011. بل أخطر من ذلك اذ ما تشهده بلادنا منذ سنوات قليلة وتحديدا بعد الثورة يدل على أن القطاعات العمومية الحسّاسة التي في علاقة مباشرة مع المواطن تشهد عمليّة استهداف ممنهجة ترمي أساسا الى المسّ من نجاعة هذه القطاعات و ومردوديتها ومستواها ودفع المواطن بل، وإكراهه على الالتجاء للقطاع الخاص كبديل قسري امام تردّي جودة خدمات القطاع العمومي. ولعلّ ما يحدث في قطاع التعليم بجميع مستوياته وقطاع النّقل وغيرها وما يحدث اليوم في القطاع الصحّي لخير دليل على أن القطاع العمومي يواجه عمليّة تصحير وتدمير ممنهجة.

لن نبالغ حينما نقول اليوم أن القطاع الصحّي، كغيره من القطاعات الحسّاسة في بلادنا أصبح ضمن أولويات مافيات ولوبيات همّها الوحيد جمع المال وتحصيل النفوذ لِنَيْل أغراضها وتحقيق أطماعها ونزواتها. بلادنا تشهد اليوم تمدّد مافيات التهريب والإرهاب والمخدرات والرّشوة والفساد والأسلحة وغيرها من الآفات الاجتماعية التي ابتلينا بها مؤخرا، فلا غرابة أن نتحدث عن مافيات التعليم والنقل والصحّة.

كلها أورام خبيثة تغلغلت وتمكنت من جسد هذا الوطن العليل. الوقوف اليوم في وجه هذه القوى المافيوزية التي تحثّ البعض على الفوضى وعرقلة مصالح المواطنين وتدفع الى بث الفتنة والتمرّد على سيادة القانون وسلطة الدولة والتي تتقاطع مصالحها مع قوى الخراب والدّمار في بلادنا، يُعدّ من أوكد الأولويات التي يجب على حكومة الحبيب الصيد أن تبحث فيها. مواجهة هذا السرطان الذي يسري سريان النار في الهشيم أضحى مسألة حياة أو موت حتى تستعيد بلادنا عافيتها وهيبتها المستباحة من كل من هبّ ودبّ .

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.