“مارتير” فاضل الجعايبي.. الجسد والدين ورحلة البحث عن الرب

 يسرى الشيخاوي-

على الخشبة في قاعة الفن الرابع يتعرّى الواقع وتسقط كل أقنعة التوت وتنساب سيول القيح الذي غزا جراح الإنسانية وتنهار كل الثوابت على إيقاع عمل مسرحي محمّل بالنقد، "مارتير" للفاضل الجعايبي.

"مارتير"، اقتباس عن نص " مارتير" للكاتب الألماني " ماريوس فون ماينبرغ" ومن إنتاج المسرح الوطني، نص تقمّص أدواره أبناء وبنات " مدرسة الممثل"  أوس الزبيدي ونهى النفاتي ومالك شفرود ومي السليم وكلارا الفتوي الهوى ومهدي عياد و سوار عبداوي وأمان الله عتروس و حمزة الورتاني.

في فاتحة العرض المسرحي، يتصاعد صوت الموسيقى فيما يدس "بنجامين" رأسه في كتاب قبل أن تدوّي صفارة المعهد مؤذنة بانطلاق حصة السباحة، حصّة لا اطر فيها ولا وصايا ولا حدود، لا شيء غير الحركات والأنفاس المتهاطلة على إيقاعها وصوت الأجساد إذ عانقت المياه.

على حافة المسبح يبدو الجميع متصالحا مع جسده، إلا "بنجامين" ينأى بنفسه عنهم ولا يشاركهم السباحة، يستفزه الكل لمعرفة السبب وتتناثر الاحتمالات من أفواه المدرّس وزملائه.

وبين احتمالات الخجل من تعرية جسده وعدم اتقان السباحة والرهبة من السباحة مع الفتيات يبقى السبب الرئيس مبهما إلى حين استدعاء والدته إلى الفصل حيث يتعلل بأسباب دينية، وسط دهشة من والدته وسخرية من زملائه.

ومن حكاية "بنجامين" المسيحي المغرق في مسيحيته حدّ التطرف ونكران الآخرين من حوله، تتولّد حكايات الشخصيات الاخرى، والدته المرأة المثقلة بطلاقها والمتعبة بابنها الذي لا يتوانى عن وصفها بالزانية، وزميله " جورج الذي خلّف له خطأ طبي عرجا لن يفارقه وإن صلى لياسوع.

حكايات كثيرة تختلف تفاصيلها لكنّها تلتقي عند البحث عن الذات وعن الحقيقة وعن ميناء السلام الذي يستوعب الجميع، من التلميذة المهووسة بجسدها وبالموسيقى الباحثة عن حضن يحتويها إلى الأستاذة التي تقارع التعصب بالعلم فالمديرة التي تتأرجح بين تيارين مختلفين.

وفيما "بنجامين" يغرق في تعصّبه وتطرّفه لا أحد فكّر في أن يفهمه أو يستوعب وجهة نظره، أمه التي وهبته الحياة التهت عنه ولم تسائل نفسها بل ساءلت المدرسة والمنظومة التربوية، وزملاؤه جابهوه بالسخرية التي لم تزده إلا تعنتا وأستاذ السباحة وأستاذ العلوم لم يفلحا في إقناعه بالعدول عن فكره المتطرّف وأستاذ الدين فقد كل مصداقية والمديرة لا ترسو عند رأي من شأنه ان يغير الواقع.

وإن كانت المسرحية تبسط تطرّف شاب مسيحي لكنّ طرحها لمسألة التطرّف كوني غير مرتبط بأزمنة وأمكنة ولا ديانات بعينها بقدر ماهو مرتبط بالإنسانية التي نخرها سوس التطرف.

من الحكايات التي تلتقي عند الجسد والدين نُسجت تفاصيل النص المسرحي المشحون بالتساؤلات عن غير المعلنة، تساؤلات عن حدود الدين وعن الخصوصيات وعن الحريات وعن الاختلاف وعن التعايش مع الآخر والتسامح.

"من منكم بلا خطيئة فليرمني بحجر"، كلمات رُويت عن المسيح يتردد صداها على الخشبة، والمفارقة أن الكل يدافع عن حقه في الخطايا ولا يستوعب حق الآخر فيها وكأن الخطايا خلقت لأجله.

في المسرحية يحاكي "بنجامين" المسيح عيسى وفي تغييب والده وحضور أمه إشارة إلى مريم العذراء، وربّما هي الثغرة التي التهمت الشخصية وجعلتها تتماهى مع فكرة كونها خليفته على الأرض، ولكنه لم يُرفع إلى السماء بعد ان روى الصليب بدمائه بل نزل عن الصليب وتبع صوت التطرف.

هو الإيغال في التطرّف ينتهي إلى لعلعة الرصاص وخرير الدماء إذ قطعت السيوف الرقاب، وتطرّف "بنجامين" سرق أرواح كل المحيطين به حينما ظل الطريق في رحلة بحثه عن الرب.

في الأثناء يبحث المتامل في تفاصيل العرض المسرحي الذي يتماهى فيه الفني والإنساني والفلسفي عن الشهيد، وعلى ايقاع الرصاصات المتناثرة من مسدس "بنجامين" والجثث المرتطمة بالخشبة تتساءل من "الشهيد" وأنت تكتم ضحكة بطعم البكاء حينما حجب عنه المسدّس رصاصاته ولم ينل الخلاص!

وإن تونس المخرج فاضل الجعايبي النص مع تطعيمه بكلمات بلهجة مشرقية فإنه حافظ على بعض الكلمات باللغة الالمانية، الأمر الذي أضفى على العمل بعدا كونيا وجعل من الصعب تحديد مكان او زمان له ليخاطب الإنسان حيثما كان وأنّى كان.

أما الممثلون فقد التهموا الخشبة بأدائهم وأفلحوا في مخاطبة العقل والعاطفة في الآن ذاته وكما استدروا الضحكات في بعض المواقف أثاروا الوجع في مواقف أخرى وكانوا متلونين بين المشهد والآخر حتى أن المتفرّج لا يشعر بمضي الوقت ولا يفكّر فيه أصلا.

من النص المسرحي إلى أداء الممثلين فالسينوغرافيا البسيطة حدّ العمق وحركة الأضواء والموسيقى التي تصخب وتخفت وفق سيرورة الاحداث وتشابك المواقف والأسلوب الإخراجي، تشدّك مسرحية " مارتير" إلى كل تفاصيلها وتدعوك إلى التفكر في كل كلمة قيلت في النص بل إنك تسقطها على واقعك دون إيذان.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.