مات الاقتصاد في دهاليز السياسة (2): رؤية إصلاحية

 أحمد وسيم العيفة –

"ليست الظروف هي التي تحكمنا، بل نحن نحكم كيف تكون الظروف."

ظلت السياسة ذلك السجن الكبير الذي وضع دعائم قوة الدولة في أركانه ودهاليزه المليئة بالظلمات: السجان هم الساسة والسجين هو الاقتصاد وعادة ما ترهق عائلات السجناء، هنا المرتبطون بالسجين هم جل الشعب التونسي… بيد أن السياسة هي قاطرة التحول الاقتصادي ان أحسنت تطويع المسائل الاقتصادية للخيارات الإستراتيجية واختيار أصحاب الكفاءة والمقدرة لتنفيذها. ان العلاقة بين السياسة والاقتصاد كالعلاقة بين العقل والجسم، كل يؤثر ويتأثر بالآخر.

ذلك أن الاقتصاد السياسي مقاربة شاملة لمسار وطني يتسم بالوضوح فإن غابت هذه المقاربة وأصبح الاقتصاديون يفكرون في الاقتصاد بمنظور لا يشتمل على السياسة من جهة أولى وأصبح الساسة يفكرون في السياسة فقط دون نظرة على الاقتصاد من جهة ثانية، دخلت الدولة في معترك ما نسميه موت الاقتصاد في دهاليز السياسة. بلا شك، المقصود هو تهميش للوضع الاقتصادي والاجتماعي في قلب معارك سياسية مليئة بالتصدعات الفكرية والاديولوجية وفاقدة للبرامج الاقتصادية البانية للاوطان. 

يتفق الجميع على الحصيلة الاقتصادية السلبية التي رافقت الدولة طيلة سنوات ما بعد الثورة. وضعف نسبة النمو الاقتصادي والعجز التجاري رغم تطور القدرة التصديرية والعجز المتواصل في الميزانية حيث فاقت النفقات المداخيل رغم الضغط الجبائي الذي رافق قوانين المالية والحصيلة السلبية للمؤسسات العمومية رغم التغيير المتواصل لقيادتها والزيادات في الاجور والتي يمتصها التضخم والتي أيضا من المفروض أن يتمتع بها أصحاب الاجر الأقرب للأجر الأدنى. 

إن الإصلاحات الاقتصادية لا يمكنها أن ترى النور دون اتفاق واضح وصريح ولا رجعة فيه مع الاتحاد العام التونسي للشغل يقضي التشارك في الدفع نحوها ضمن مقاربة تراعي مصالح الدولة وهذا يتطلب تلاحم الحنكة السياسية والمقدرة التفاوضية لدى من يقود الحكومة التونسية. اما تغيير طبيعة النظام بات أمرا ضروريا ضمانا لسلاسة العمل بين مختلف مكونات الدولة.

المسار الحكومي النقابي يجب أن يتسم بالوضوح خصوصا مع عدم الاستقرار المتواصل والمستمر بلا انقطاع في هذه العلاقة وحيث يختلف الجميع في تحديد أسباب اللااستقرار فإن التزام كلا الطرفين بمهامه وظوابط عمله امر غاية في الأهمية. 

ان عالم الأرقام والمعدلات عالم حساس جدا يحتاج لأن تكون فيه المؤسسات القائمة عليه مستقلة استقلالا كاملا عن السلطة التنفيذية. بات اليوم ضروريا ان تقوم الدولة ببرنامج يشتمل على مقاربة تراعي استقلالية المعهد الوطني للإحصاء لكي يعمل في تمام الاستقلالية بلا تبعية لأي طرف. حيث أن المعهد الوطني للإحصاء يجب أن ينتخب من يرأسه من طرف البرلمان بعد اقتراح من السلطة التنفيذية وهو ما سيلعب دورا هاما في استقلالية هذا المرفق الذي ضروري ان يكون بعيدا عن دوائر السلطة. في الدول الأخرى، يعتبر هذا الميدان من أخطر وأهم الميادين التي يجب أن تحظى بالاستقلالية والحرفية وفق ضوابط واضحة وناهيك عن ان هناك مؤسسات أخرى تقوم بدور الاحصاء بشكل حرفي ومهني بامتياز. 

ان القرارات الموجعة هي أساس العمران!، ان المشاكل في الدولة هي مشاكل حوكمة وتسيير. لأنه طالما أن التغيير ممكن هذا يعني أن الحل يكمن في تغيير التوجهات والخيارات والتزام الوضوح في كل توجه. ان السيء هو اختيار التوجه الخاطئ والأسوء هو المواصلة فيه دون محاولة للتدارك والإصلاح، لقد مرت المؤسسات العمومية بأوضاع سيئة شابتها الخروقات المتواصلة لكل ماهو قانوني وتنظيمي ودخلت أغلبها في سلسلة أزمات متتالية.

لقد اثبتت التجارب ان تقريب مسألة التسيير والتأجير من العمومي إلى الخاص ناجعة وفاعلة وناجحة، ان تحديد سقف تأجير في حد معين غير قابل للزيادة أو النقصان يجعل المسؤول يمارس صلوحياته بلا حس تشجيعي أو تحفيزي يجعله قادر على إعطاء الاضافة في عمله وفي تحقيق أرباح للدولة لأنه في النهاية المؤسسات العمومية هي مؤسسات خاصة لكن رأس المال فيها للدولة وليس لفرد أو مجموعة من الأفراد.

المؤسسات العمومية تحملت الكثير من الأعباء خاصة على مستوى كتلة الأجور وعدد الموظفين ومدى نجاعة العمل داخل هذه المؤسسات وهذا أمر هام وجذري في صلاح حال المؤسسة. لذلك برنامج يشتمل على إصلاح هذه النقاط يمكنه أن يمنحها دافع نحو المردودية والنجاعة. كما أن دخول رأس المال الخاص في المؤسسة العمومية ليس طريقة تخلص من المؤسسة بقدر ماهو محاولة إصلاحية لمسألة الحوكمة والتمويل وهو أمر طبيعي معمول به في أي مكان طالما تظل الدولة لديها قيمة رقابية وقانونية تكفل لها توافق هذه الأطراف على عدة نقاط لا يقع المساس بها. 

هذا كله شيئا فشيئا سيجعل الدولة تتفرغ نحو وظائفها الأساسية وهي ان توفر الأمن وتضمن العدالة وتنمي التعليم والصحة وتشرف بالمشاركة مع القوى الاقتصادية على توفير بنية تحتية ممتازة ومهيئة لتطور اقتصادي ضخم. وهذا سيجعل الاقتصاد يتحرر وينتعش وينقص من الاثقال الراسية على كهل الدولة، دون تأسيس لغياب الدولة بل إن الدولة هي التي تراقب وتشرع وتحكم ويبقى لها يد تسييرية واضحة ومراقبة للاقتصاد عبر القوانين والتشريعات والآليات الرقابية المتفق عليها.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.