“لعباد فدّت”.. للمقاومة وجوه كثيرة

 يسرى الشيخاوي- 

 هل جرّبت يوما ان ترقص على جراحك المفتوحة؟ هل حاولت ان تصنع من أنينك ألحانا وتصدح بأناشيد الحياة؟ هل  تخيّلت أن تنسج من اليأس  ملامح مقاومة لا تستكين؟ هل خبرت معنى استنطاق الحياة على عتبات الموت؟ التفكير في الأمر قد يبدو ضربا من العبث ولكن الفنان مجدي المسعودي لم يتردد وهو يرسم وجوها كثيرة للمقاومة.

كثيرة هي الندوب التي غاص فيها مجدي المسعودي أو "black magui"  كما يسمي نفسه ولكنه  سخر منها وقاومها بتفاصيل كثيرة، بنبرة الإصرار في صوته، بالألوان التي زينت كل ثنايا فيديو كليب " العباد فدت"، وبالموسيقى التي تختزل الحماسة والفرح وبالصور التي تقارع اليأس.

الواقع الموجع حاضر في تفاصيل الأغنية، لكن سيل الأمل حجب معالمه فلم يبق منه غير بعض أثر في كلمات الأغنية التي تختصر حال التونسيين في العشرية الأخيرة، العشرية التي تلت ثورة ارتفع معها سقف الآمال عاليا ليهوى في كل منعرج إلى الدرك الأسفل.

بعيدا عن المباشرتية المربكة والبكائيات، تضعك الأغنية المصورة وجها لوجه مع تونس بتفاصيلها الموجعة وببوح من لا صوت لهم ومن تلاشت أصواتهم وهم يلاحقون التغيير ومن كبّلت الأغلال أياديهم فما كتبوا صرخات الرفض والاحتجاج. 

"لعباد فدّت" عنوان الصفحة التي تمتد منذ سنة أحد عشر وألفين إلى اليوم، صفحة لم تطو ولم يكن فيها مكان لإرادة الشعب وكل حديث عن ذلك هو محض سفسطة وذر للرماد على العيون، صفحة على ما تحمله من تجليات الموت إلا أن الحياة تطل من زواياها.

وهذه الأغنية المصورة التي تتقاطع فيها البساطة بالعمق وتتواتر فيها الثنائيات والرمزيات، امتداد للاحتجاج والرفض، الاحتجاج على  الواقع وعلى المنظومة وعلى السياسات التي جعلت من الشباب حطب محرقة وباعت أحلامه في مزاد علني، ورفض للتطبيع مع هذا الواقع. 

القمع والظلم والانتهاكات ورحلات الموت بحثا عن الجنة الموعودة والإرهاب ذو الوجوه الكثيرة، مواضيع تحيلك إليها كلمات الأغنية وتجعلك تتفكّر في الوضع الراهن وفي جنازات الأحلام التي تكاد لا تتوقف وتتهاطل عليك الأسئلة ولكن سرعانما تنتشلك الموسيقى المفعمة بالإرادة والإصرار من سطوة تفكير لن يفضي إلى شيء.

الموسيقى في هذه الأغنية مزاجها من فرح ومقاومة وفي كل تفاصيلها دعوة إلى الحياة، موسيقى تخترق داخلك وتسري بك إلى عوالم النشوة حيث تتخفف من كل الأدران والأعباء.

الألحان تعود بك إلى جذورك الأولى عبر أجنحة ايقاعات السطمبالي، فتبدو لنفسك عاريا إلا من تجاربك وأحاسيسك المتناقضة فتدور حول نفسك وترقص وترقص حتى تصّعد إلى الأعلى وتعانق السماء. 

"قوم اشطح"، تعبيرة تردّدت مرارا في الأغنية وفيها دعوة إلى الثورة والمقاومة، قم ارقص على جراحك، فم ارقص على حطام اليأس، قم ارقص في كل الحالات ففي الرقص حياة.

هذه التعبيرة ذات دلالات ورمزيات كثيرة، فهي وإن تبدو في سياق الأغنية المصورة دعوة إلى الرقص بمعنى التمايل والضرب على الأرض بالأقدام لتحرير الروح من احزانها، إلا أنها في الواقع حشد للتمرّد على الواقع وكسر الأغلال والأصفاد. 

تناغما معها خلق كل من سامر وخلود قبلاوي كوريغرافيا  معمدّة بالحياة والأمل والتمرد لتتجاوز الخطوات كل حواجز اليأس وتسقطها حتلى تغدو شظايا تتلاشى كلما لامست الأقدام الأرض وعادت لتفقز نحو العلياء. 

وفي أزقة المدينة العتيقة بصفاقس تهادت ملامح هذه الأغنية المصوّرة التي ترشح حماسة، ومن محل "بريبري" ماركة الملابس التي أطلقتها مريم البريبري وطرزت تفاصيلها بكل ما اوتيت من إصرار وشغف ومحبة، تبدّت صور مدادها من ألوان وتراث.

بأزياء "بريبري " الحاضرة في التصوير اكتملت ملامح الإخراج التي رسمها حمدي هديدر وأتقن تفاصيلها لتتجانس كل عناصر الأغنية المصورة وتبدو بمثابة البواية إلى بقعة من الأرض لا تخضع لزمان ولا مكان ولا ولي فيها ولا سيد إلا للألوان والرقص والثورة.

من الموسيقى إلى الكلمات والأزياء والاخراج، تخط أغنية " لعباد فدّت" فصولا من الإرادة على نوتة الحياة ومن نوتاتها تخلق عالما يعانق الحرية، عالما لا سلاح فيه إلا الفن لطمس تجليات الموت واستنطاق الأمل الساكن في الدواخل.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.