“لحية جدي”.. حينما يتعانق الفني والتربوي تنبت للأطفال أجنحة

يسرى الشيخاوي-
في قاعة تزينت بحضور الأطفال، بنظراتهم التي تتقد براءة وكلماتهم المبعثرة التي تبعث في النفس الفرح، كان ميلاد مسرحية "لحية جدي" للمخرج شكيب الغانمي.
وعنوان المسرحية يقذف بك في عوالم الطفولة حيث لاحقنا حينما كنا اطفالا بائع حلوى "لحية جدي" وسال سكرها الملون بالازرق والوردي والأبيض كلحية أجدادنا، على أيادينا وعلى جنبات شفاهنا.
فيما انت تجول في ذاكرتك تبحث عن صدى عربة بائع الحلوى وصراخ الأطفال حولها "لحية جدي .. لحية جدي" وعن طيف طفل صغير يحكم قبضته على العصا التي ينسج حولها البائع خيوط السكر، يتسلل إلى سمعك صوت رعد وبرق.
على إيقاع المطر تشخص عيون الأطفال التي تنير ظلمة القاعة إلى الركح حيث مدفئة تتصاعد منها خيوط النار تؤانس حمرتها ضوء المكان الخافت، ومن ثنايا المكتبة الموضّحة بكتب كثيرة ووهج النار في المدفئة تتزيّن الخشبة بالدفء.
في المكتبة رجل مسن(نزار الكشو) غزا الشيب لحيته حتّى بدا بياضها شبيها ببياض "لحية جدّي"، يسند ظهره إلى أريكة ويجول بناظريه بين حروف كتاب، يلاحق شخصيات وأحداث ويطارد أزمنة وأمكنة ليمسك بخطوط حبكة قصصية.
وحينما تجلّت ملامح الحكاية، استسلمت جفون الرجل إلى النوم في الوقت الذي تعالى فيه صراخ حفيذه(أحمد الصغير) بحثا عنه، وحضور الطفل كان صارخا على الركح وزادته اللثغة في النطق إقناعا.
مكتبة ومدفئة وأريكة وحضن جدّ، هي تفاصيل تغوص بك في عوالم ترشح دفئا وحبّا، تفاصيل جعلت منها السينوغرافيا التي ارتكزت على البساطة واقعية جدّا حتّى أنّك تتمثّل نفسك في صورة الحفيد، فكل منا يحتفظ بذكريات نحت الأجداد معالمها بقصصهم.
والنص المسرحي لـ"لحية جدّي" يستمدّ تفاصيله من هذه الذكريات، من الحياة الواقعية ويمزجها ببعض من الخيال والأساطير ويصنع منها حبكة سردية ذات بعد تعليمي غير صريح وهو ما يقطع الطريق امام الملل.
على الخشبة يروي الجد قصصا لحفيذه، من ليلى والذئب إلى فلة فالأقزام السبعة وسندريلا ، يشرع الجد في القص ويستطرد الحفيذ بأنه سمع القصة سابقا ولم يبق أمام الجد من حل سوى أن يروي له حكايته التي أعيته حتّى اكتملت.
وعند انطلاق سرد رواية الطفلة الصغيرة غير المطيعة لوالدها، يظهر على المسرح أب(أسامة غلام) وابنته(أميمة مجادي) يجسّدان قول الجدّ، ليسكت الجدّ وحفيذه ويتكلم أبطال القصة في الجانب الأيمن من الركح، هي مراوحة ذكية من المخرج بين الواقع والخيال.
اتلطفلة شقية جدّا وعنيدة جدّا ومتطلبة جدّا لا تتردّد في لفظ كلمات تجرح والده، وتقلل من شأن هدية قدّمها لها وتعيّره بفقره ولكنّه وجد الحل في الخيال وأوجد مفتاحا يحقق رغبات ابنته ومن رحلاته معها تجلت ملامح الجانب التربوي التعليمي في العرض المسرحي.
وفي رحلة الاب وابنته إلى البحر وإلى الصحراء وإلى الصين صادفتهم مخاطر كانت الطفلة مسؤولة عنها بسبب عنادها ولكنّها ايضا هي التي تجد الحل بسبب ذكائها في السفرتين الأولتين وبفضل تخليها عن طباعها السيئة في السفرة الأخيرة حينما تحوّل والدها إلى تمثال.
وفي كل مرّة تسرد الطفلة معلومات عن الحوت وعن السراب وعن المحيط الهادي وعن سور الصين العظيم أمام قرصان البحر وامير الصحراء وامبراطور الصين (شكيب الغانمي) وخادمهم (مالك اللباوي)، وإلى جانب هذه المعلومات التي تلقيها الطفلة بطريقة تشدّك إلى متابعة كل حرف منها، كانت المغامرة تنتهي في كل بوضع الإبع على العلل التي تنخر الكون من الفضلات البلاستيكية إلى صيد الغزلان في الصحراء.
والمسرحية في كل تفاصيلها تدفع الأطفال نحو عالم الخيال إذ تعرض لهم بعض تفاصيل الصحراء  والبحر والصين  لكنّها تترك لهم المجال ليصوروا في أذهانهم بقية التفاصيل وتهبهم في كل مرة موضوعات وقضايا تربوية دون إشقاط ممل.
ونهاية مسرحية "لحية جدّي" تدعو إلى التفكير والتفكّر، فنهاية قصة الطفلة كان فيها السجال على أشدّه بين الطباع السيئة والطباع الجيّدة وتواتر فيها الثواب والعقاب مع كل مسار جديد، وهي نهاية تحفّز الاطفال على حب الخير وحب الآخرين والقناعة وطاعة الوالدين، ونهاية حديث الجد وحفيذه فيها الكثير من العبر حيث انقلبت الأدوار ولعل جملة الطفل تلخّص كل الكلام " نحنا سمعنا منك برشا حكايات واليوم نحنا بش نحكوها".
وفي "لحية جدّي" يتعانق الفني والتربوي فتنبت للأطفال أجنحة يحلّقون بها في عوالم الخيال، عوالم نسجها الأداء الصادق والعفوي للمثلين الذين راوحوا بين الجدّ والهزل وخاطبوا الطفل بلغة تسمو به، والمؤثرات الموسيقية والديكور البسيط والملابس البسيطة التي تعبّر عن الشخصيات دون مغالاة أو ابتذال.
 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.