17
يسرى الشيخاوي-
هالة من السريالية توشح الأحداث المتواترة في تونس، نزيف الموت لا يتوقف، وزحف العدوى بفيروس كورونا لا يتقهقر وسط استقالة الحكومة من كل أدوارها، بل وتحصنها وراء وعود زائفة وكذب لا حد له.
سيل من المساعدات للدولة العاجزة لا أثر لها يقابله سيل من دموع الأطباء ومديري المستشفيات وشح في الأوكسجين الذي يزرع الحياة في رئات المرضى.
مشاهد قاتلة تتواتر من المستشفيات، إطارات طبية وشبه طبية منهكة من الفيروس ومن لامبالاة الحكومة ومرضى افترشوا الارض والتحفوا الأثير، ومواطنون نذروا أنفسهم للمساعدة مااستطاعوا إليها سبيلا.
الموت يطل برأسه من كل الزوايا، والمسؤولون لا هم الا كراسيهم وصراعاتهم العطنة، لا الشعب ولا سلامته تعنيهم في شيء لا شيء يعنيهم إلا انتصاراتهم على بعضهم البعض، انتصارات ليست إلا هزائم في أعين من يواجه الوباء أعزل.
كل هذه الأفكار تتهاطل عليك تباعا، وأنت تشاهد المشروع الفني الجديد للمخرج المغرّد خارج السرب المنثف زهروني، "كنيسة الموت الرحيم"، المشروع الذي ينسج ملامحه من فكرة الانتحار الجماعي.
على ايقاع كلمتين هما "احكموا الحجر"، الوسم الذي غزا مواقع التواصل الاجتماعي بعد دعوة من إلى الانتحار الجماعي، تتساءل ماذا لو اختفى الشعب التونسي؟، وقبل أن تسترسل في الإجابة عن هئا السؤال تتسلل إليك بعض التفاصيل من واقع البلد فتجيب ضاحكا سيحكمون الحجر أو الفراغ، المهم أنهم في الحكم.
تونس الجريحة، تراءى لك وانت تجول بأفكارك بين كلمات النص والمشاهد المؤلفة للعمل الذي يغلب عليه الطابع التجريبي، قبر وما اكثر القبور زمن الكورونا، وبياض منثور يحاكي الأكفان، وحبل يحاكي أغلال الصمت والتطبيع مع واقع آسن، وزهور يانعة في ذبولها الأخير، تماما كقلوب أعيتها الخيبات ولكنها مازلت تنبض،وصوت ترانيم قادم من الاعماق منبئا بالخلاص.
"كنيسة الموت الرحيم"، تجربة أُنجزت في إطار إقامة فنية دامت 5 أيام في مقر جمعية الشارع فن بدار باش حامبة في اأواخر شهر جوان سنة واحد وعشرين وألفين، وفيها يتماهى الفني والإنساني وينصهر الواقع والخيال.
وهذه التجربة، جزء ثان من ثلاثية الستيكس للمنصف زهروني التي استهلها بعمل "عبور" الذي يحكي قصة عابرة جنسية في الحياة ما بعد الموت، هو زهروني يفسر الموت والحياة على طريقته ويسائل الثوابت ويهدمها ويبني على أنقاضها أعمالا فنية مارقة عن السائد والمألوف.
القصة التي يتسلل البؤس من كل تفاصيلها، تنطلق بخروج "إسراء" من عيادة الطبيب التفسي، الأمر هنا ليس اعتباطيا فالصحة النفسية للتونسيين راكمت الكثير والكثير وهي على شفا الانهيار تماما كالمنزمة الصحية لهذا البلد الظالمين حكامه.
الزمن في هذا العمل غير الزمن، الدقائق غير الدقائق والثواني غير الثواني، تسعون دقيقة بعد الساعة وثمانون ثانية بعد الدقيقة، ولكن الثابت ان الأمن الجمهوري مازال يقتحم المنازل من أجل حجز الجعة والزطلة، وبين المتغير والثابت تبزغ رغبة " إسراء" في الانتحار.
وعلى نسق هذه الرغبة التي تحولت إلى تحريض على الانتحار الجماعي، تهاطلت قضايا راهنة منها ضعف الرواتب والحريات الفردية والعطالة والبطالة وكورونا وتعاطي الحكومة معها والتحركات الاحتجاجية في فرنسا وفلسطين والمكسيك.
ولان الواقع اليوم صار رهين الافتراضي، قررت "إسراء" أن تستدعي التونسيين إلى مشاهدة انتحارها على الانترنت ومنذ تلك الدعوة تواترت حوادث الانتحار، وغزا وسم "احكموا الحجر" مواقع التواصل الاجتماعي، وقال الشعب كلمته وترك المسؤولين يجترون أفعالهم.
وفي ركن ضيق لن ترى منه إلا السواد وكلمات باللغة الفرنسية تعني "هذه الحقيقة"، تسائل إسراء وزيرا يبدو بمظهر الرهينة وتحاكمه على طريقتها ويحاول أن يتلون ويتلو ماشاء من لغة خشبية لكنها لا تنطلي عليها وهي التي قررت الموت ولن تتراجع عن قرارها أبدا.
اللقاء كان مباشرا، يشاهده كل التونسيين، و"إسراء" تثأر لهم بقسوة ونعومة في ذات الآن، والوزير يتنصل من المسؤولية ويمعن في خطاب سطحي يحصر فيه الرغبة في الانتحار في زاوية الإلحاد، قبل أن يسود وسم " اقتلو واحيينا" إذ يبدو أن لا حياة للشعب إلا بقتل المسؤولين، والموت هنا يتخذ بعدا معنويا.
ومع تتالي السرد في هذا العمل المغرق في النقد، يتبين أن تعميم "إسراء" لفكرة الانتحار ليس إلا ردّ فعل على مقتل صديقتها الصحفية "ميارة" تحت وطاة التعذيب، وفي الأمر رمزيات كثيرة فبموت الصحافة الحرة موت للديمقراطية والوطن والشعب.
وفيما تتلو "إسراء" نص صديقتها للشعب الضحية وللسفاح ولمن لا يعرف أن يكون منقذا، تعود الفتاة ذات الصوت الملائكي لتلو ترانيمها، في الواقع لن تمعن كثيرا في الكلمات بقدر ما تحاول أن ترسم مسارات لحياة "ميارة" قبل ان تلبس الأبيض.
أفكار كثيرة عن العدمية والقدر وموت الإله يقدّمها العمل الفني المستوحى في بعض تفاصيله من كنيسة القتل الرحيم وهي جماعة دينية أسسها كريس كوردا عام إثنتين وتسعين وتسعمائة وألف، وهي جماعة تدعو إلى تقليص عدد السكان من أجل الحفاظ على البيئة، ودعواها ألا تناسلوا.
ثنائيات كثيرة طرحها هذا العمل، بدءا من المراوحة بين القيم الضوئية فبعض سواد وبعض بياض، مرورا بالسجال بين الحياة والموت، وبين الواقع والخيال وبين السلطة والشعب وبين الأنا والآخر وبين الوجود والعدم، ثنائيات جسّدها نص المنصف زهروني الذي يحاكي الواقع التونسي وأداء سونيا هذيلي ومهران حمدي الذي يشدك إليه شدا لتمكنهما من مفاصل الشخصيات وصوت فرح عرفاوي الذي يعانق السماء.