بقلم: محمد عبو
كنا مع الدستور يوم أراد البعض الانقلاب على نتائج الصناديق، ولم نكن في خدمة النهضة، بل كنا في خدمة وطننا. وكنا مع الدستور يوم أراد قايد السبسي الانقلاب على العدالة الانتقالية، ولم نكن في خدمة هيئة الحقيقة والكرامة، بل كنا في خدمة وطننا.
واليوم نحن مع الدستور لما طرحت مبادرة لتفعيل مبدأ المساواة بين المواطنين والمواطنات الوارد فيه، ولا يمكن أن نكون في خدمة قايد السبسي -الذي حذرنا الناس من انتخابه أكثر من غيرنا- بل كنا في خدمة وطننا.
يلومنا بعض الناس عن موقفنا لكونه غير شعبي، فنقول لهم لو لم نتخذه ما كنا لنحترم أنفسنا. نحترم شعبنا نعم، ونعمل من أجله نعم، من أجل الواعي فيه وغير الواعي، اليساري واليميني، المحافظ والتقدمي، المهتم بالسياسة وغير المهتم، ولكن لا نسقط أبدا في الشعبوية، فقد تأسس التيار كما ورد في بيانه الـتأسيسي ليكون مختلفا عن الوضع البائس السائد.
نحترم شعبنا ونحترم إرادته لمّا يصوت لمن يختاره وندافع على شرعية اختياره حتى لو كنا نعتبره اختيارا كارثيا، ولكن لسنا ممن يعتقد أن الشعب على حق دائما، ثم وهل هناك رأي واحد للشعب ؟ عن أي جزء من الشعب نتحدث ؟
يوم ضرب الإرهاب مركز التجارة العالمية في 11 سبتمبر 2001 كان الموقف الظاهر لشعبنا هو الابتهاج، ولما كانت جرائدنا بعد سنة 2003 تتحدث عن أبطال يفجرون أنفسهم في الشرطة العراقية كان الناس يتناقلون هذه الأعمال الإرهابية في المقاهي وجزء منهم يفتخر، ولما ضرب الإرهاب تونس بعد الثورة أصبح الموقف الظاهر لشعبنا كره الإرهاب والتنديد به وحتى بمن يجرؤ على تفسيره كظاهرة. هذا أيضا شعبنا.. شعبنا الذي احتل أبناؤه في التنظيمات الإرهابية المراتب الأولى في العالم قبل الثورة وبعدها مع ملاحظة أنهم غالبا يكونون الأكثر دموية وإجراما.
عندما كان الآلاف من أبناء تونس مرميين في السجون في التسعينات، كان الموقف السائد لشعبنا التنديد ب”الاخوانجية”، وبعد الثورة صوت لهم أغلبية الشعب.. هذا أيضا شعبنا..
اليوم يصرخ الكثير من أبناء شعبنا “لبيك إسلاماه” تصديا لمشروع قانون مخالف لنص صريح في القرآن، وهل كان سكوتهم مطابقا لنص صريح في القرآن يوم كانت النساء تغتصبن في مراكز الاعتقال فلا نسمع لهم صوتا ولا نرى لهم من أخلاق المعتصم وشجاعته شيئا؟ هذا أيضا شعبنا الذي لو نصر الحق والعدل وانتصر لأخيه المواطن وإن اختلف معه في الرأي لما حصل ما حصل ولما تمكن حاكم من انتهاك حقوق التونسيين وإذلالهم..
يتخلف العالم الإسلامي بسبب مسلمين انهزموا حضاريا وأخلاقيا قبل أن ينهزموا عسكريا واقتصاديا، مسلمون تحرّك جزء كبير منهم العواطف الدينية في القضايا العامة أحيانا، ويعيشون في حياتهم اليومية بلا مرجعية دينية في معاملاتهم، فيسود الإرشاء والارتشاء والاعتداء على حقوق الغير والكذب والخداع وغياب الإخلاص في العمل. هؤلاء أيضا جزء منهم موجود بين شعبنا.
إسلاميون تونسيون يضربون المثل بتركيا باعتبارها الدولة الإسلامية الوحيدة المتقدمة، لكونها يحكمها حزب ذو مرجعية إسلامية، ويتجاهلون أنها لائيكية، هذا أيضا شعبنا…
بين شعبنا حزب يصادق على دستور يتضمن دولة مدنية ومساواة بين الجنسين، وعند التطبيق ينقلب على الدستور ويدخل في تأويلات انقلابية لنص كان عليه عهد أن يطبقه وألا ينقلب عليه وهو الطرف الأكثر عرضة للانقلاب ولانتهاكات الحقوق.. هذا أيضا شعبنا…
وفي شعبنا نخب يدعي بعضها الحداثة، ولا ترى للدستور قداسة عندما ينتصر خصومها، في حين يصبح الدستور مقدسا يوم يخدم تصورا يرونه حقا.. هذا شعبنا أيضا.. بعضهم كان يمتنع عن إمضاء بيان يتضمن مطالبة بالعفو التشريعي العام وإطلاق سراح خصومهم من سجون القهر، واليوم يرفع راية الحقوق والحريات للجميع.. هذا أيضا شعبنا…
وفي شعبنا أناس عقلانيون، وتحركهم مبادئ لا يتخلون عنها مهما كانت انتماءاتهم الفكرية… هذا أيضا شعبنا…
أي شعب يريدوننا في التيار الديمقراطي أن نتبع خطاه حتى يرضوا عنا إذن؟ وهل دورنا أصلا أن نتبع وأن نسكت على السلوكات المخطئة، وأن نغالط الناس ونسايرهم في أخطائهم؟
نحن في خدمة الشعب، نحبّه بسلبياته وبإيجابياته، ونفهمه جيدا ونعرف أن جزءا كبيرا منه عاطفي ومتقلب المزاج، ونقوم بدورنا في التعامل معه كمسؤول لا كفريسة نستغل ضعفها لاصطيادها انتخابيا. ونعرف أن هذا البلاد ستتقدم يوما ما طال الزمن أو قصر.
بعد الحرب العالمية الثانية تطورت منظومة حقوق الإنسان بفضل مساجين سابقين جربوا ويلات المعتقلات النازية والفاشية، ووصل بعضهم إلى السلطة وموضع صنع القرار. نحن لسوء الحظ لدينا آلاف المساجين السياسيين السابقين، ولا ينظرون إلا إلى اللحظة التي هم فيها وإلى موضعهم، ولا يهمهم الإصلاح، بقدر ما تهمهم السلطة الآن وهنا.. سلطة بلا أي نتيجة إيجابية، فلا يهم.
من أصلح في الغرب، فعل ذلك وهو في مأمن من أن يكون مجددا ضحية، ولكنه تعلم أن يكره لغيره أن يعاني ما عاناه هو، وبعض نخبنا تعرف أننا لم نبلغ هذه المرحلة من الاستقرار لنظامنا الديمقراطي الهش، ورغم ذلك تأخذهم العزة بالإثم فيتمادون في الانتصار لحساباتهم الحزبية على حساب حقوق الدولة ومن يختلفون معهم.
دعوة إلى أبناء التيار الديمقراطي للثقة في توجهات حزبهم المستندة إلى دستور البلاد، جامع كل التونسيين وحاميهم بمختلف توجهاتهم واعتقاداتهم وتأويلاتهم للدين، والمستندة إلى وثيقة هويته وخط سياسيه التي ضبطت بدقة وبشكل حصري العلاقة بين الدولة والدين ولم تذكر من بينها التشريع الذي يضعه مواطنون يبحثون عن المصلحة العامة وليس عليهم في ذلك أي سلطة دينية.
لن نندم يوما على موقف مبدئي أخذناه، أما هم، فليواصلوا شعبويتهم وتلاعبهم بالعواطف الدينية وتحريك آلتهم للاستثمار الحزبي، وهم أكثر الناس ضحية للاستثمار لو بقيت لهم ذاكرة، وليواصلوا اغترارهم بكسب عابر قد لا يطول. جزء غير واع من الشعب يساندهم في موقفهم اليوم، هو نفسه قد يقع تحريكه ضدهم يوما ما بآلة رهيبة قد تباغتهم وقد لا يجدون بينه نصيرا، وحتى بعض شركائهم السابقين ، الذين قالوا لهم يوم الاتفاق على تشكيل حكومة: سنشارككم الحكم حماية للبلاد من الفوضى ونحن نعرف أننا خاسرون، فسعوا لضرب حزبهم من الداخل ثم نشروا حولهم الأكاذيب لإقناع قواعدهم بأنهم يتآمرون عليهم، لا يرون فيهم اليوم إلا ضحايا، الدفاع عنهم واجب إذا ظُلموا، ولا يرونهم حزبا ذا مصداقية يمكن أن يكون محاورا أو شريكا في أي مشروع كان بقطع النظر عن حجمهم الذي سيتقلص يوما لا محالة.
ما نريده اليوم هو المساهمة في بناء مجتمع يؤمن بحق الاختلاف ويحترم آراء غيره ويمارس ديمقراطيته بوعي وفي حدود ما سطره الدستور الذي حرص واضعوه على غلق بعض فصوله بمفتاح وإلقاء هذا المفتاح في البحر، بأن جعلها غير قابلة للتعديل، حرصا على ألا يأتي كل مرة طرف أغلبي فيغير أحكامه، هذا لإقرار العقوبات الجسدية بدعوى الاستناد إلى تصوره للدين، وذاك بحضر الأحزاب التي لها نفس ديني، استنادا إلى تصوره للحداثة.
تونس التي نحبها هي تونس التي يتعايش فيها الجميع مهما كانت مرجعياتهم الفكرية، تحت سقف دستور وضع أسس هذا التعايش، دستور يؤوله المختصون وتفصل في أي خلاف فيه محكمة دستورية نرجو أن يُختار أعضاؤها لكفاءتهم ونزاهتهم وحيادهم، مجتمع منظم بقوانين ويؤمن بالحريات للجميع ما لم تتجاوز ما نص عليه الدستور والقانون، مجتمع مشغول بالكد والجد للنهوض بنفسه ومقاومة الفقر والتسيب والفساد الذين نخرا مقدرات البلاد والذين لم تتصد لهم الحكومات المتعاقبة سواء كانت “إسلامية” أو “حداثية”.. مجتمع لا يختار فيه الناخبون من يحكمهم على أساس من مع تطبيق الشريعة ومن ضد الدين، وإنما على أساس القدرة على حماية حرمة الجميع وحرياتهم، وتوفير الأمان لهم وفرض احترام القانون على الكافة والقدرة على الإصلاح والنهوض باقتصاد البلاد باستقلالية عن كل مراكز النفوذ في الداخل والخارج وعن مصالح الحزب أو العائلة.
هل للدولة علاقة بالدين؟ نعم فدستورنا أشار إلى الإسلام في فصله الأول ونصت توطئته على تعلق الشعب بتعاليم الإسلام ومقاصده المتسمة بالتفتح والاعتدال، وهذا يلزمها بالإشراف على أماكن العبادة وحسن تكوين الأئمة وحماية المقدسات ، ويمكن للحكومة في حالات معينة أن تعطي توجيهات للأئمة للخوض في خطبهم في مواضيع معينة تهدف لغرس قيم معينة يحتاجها الوطن، كقيم الإخلاص في العمل والأمانة والثقة … على أن يكون ذلك ببلاغ ينشر للعموم حتى تكون تحت رقابة الشعب لعدم استغلالها الخطاب الديني لمصلحة حزبية أو انتخابية، وعليها أن تحسن اختيار برامج التربية الدينية في اتجاه الإسلام المتفتح والمعتدل الذي نصت عليه توطئة الدستور، كما عليها أن تسهل للمواطنين أداء شعائرهم الدينية وأن تحمي حريتهم هذه ما لم تخل بالأمن العام، وأن تعتبر نفسها جزءا من العالم الإسلامي تسعى في حدود إمكانياتها لمصالحه المشتركة، غير ذلك، فليس من أهداف الدولة أن يدخل مواطنوها الجنة أو يصلون نارا، فكل حر في اختياراته وفي معتقده.
إن لا قدر الله، لم يتطور الوعي بما فيه الكفاية ووقع الناس مجددا في الاستقطاب الثنائي المغشوش، فسنتحمل معا وزر اختيار الأغلبية، ولكن التيار سيبقى مهما كان وزنه ليفضح التحيل على العقول واستغفال التونسيين وحكومات حماة الفساد والتسيب التي ستتشكل كنتيجة طبيعية لهذا الاستغفال، وسيكون إيجابيا في تعامله معها لو اتجهت في أي إصلاح بقطع النظر عن كل مصلحة حزبية.
على هذا تأسس التيار وسيبقى مخلصا لوثيقة هويته وخطه السياسي التي وضعت عند التأسيس، ويبقى في خدمة التونسيين لا بالانقياد لأهواء جزء منهم مهما كانت نسبته.